أمهات مع وقف التنفيذ

لم أنتبه لِما كان يقوله لي أخي وهو يقود سيارته أنه شاهد مقطعًا لأم تعذب بنتيها التوأم رغم استنكاري للموضوع دون رؤيته من خلال وصف المنظر، لكني بالأمس وقعت عيني على المقطع مصادفة وأنا أتصفح الفيس بوك ويدي حارت ماذا تعمل لتتجاوز تلك الصفحة سريعًا والابتعاد عن رؤية روح صغيرة لا حول لها ولا قوة تكاد أن تُزهق أمام أنظار الجميع، ولا أعلم كيف ضغطت يدي لتحميل أحد المقاطع بالواتساب لأكتشف أنني أمام مصيبة، وهي جريمة انتحال مسمى أمّ مع وقف التنفيذ وبسبق الإصرار والترصد.

فبغض النظر عن الأسباب التي ترجح أنها نكاية بوالدهما المنفصلة عنه، والتي لا ترتقي لتكون سببًا مقنعًا في تعذيب روح من المفترض أن تكون عبارة عن فلذة كبد وأحشاء وخلايا نمت خلال تسعة أشهر في بطن من تُدعى لهم بأم !! المنظر كان مؤذيًا لدرجة أجزم أن الكثير لم يستطع إكمال المقطع كاملًا، فثوانٍ قليلة فقط كافية للتألم منه، لأنه لا يناسب ذوي القلوب الضعيفة، ومن ذا يكون ذو قلب حديدي أمام ما يُفعل في تعذيب لأطفال ليس لهم حول ولا قوة لدفع اليد التي تضربهم بلا رحمة ومن من؟ من الأم التي هي الأمان الأول والحضن الدافئ الذي يفترض أن يحميهم من أي نسمة باردة فكيف لو كان اعتداءً بالضرب منها فمن ذا يحميهم منها؟

هي ليست الحادثة الأولى التي يتعرض فيها الأطفال للتعذيب من أقرب المقربين لهم وأجزم أنها ليست الأخيرة، فهناك أمور أصبحت غير طبيعية تنتاب المجتمعات، وهناك أدوار لم يتقمصها أصحابها جيدًا، فأصبحت خشبة المسرح الواقعي مخيفة لابتعادها عن واقع الفطرة.

الأم لم تغدُ أمًا بهذا الزمن، فهناك البعض من الأمهات تأتي الراحة في قائمة أولوياتهن مع الاسترخاء والتسوق والبُعد عن صخب الأولاد والذهاب مع الصديقات وتركهم إما عند الجدة أو مع والدهم أو مع الخادمة أو بالحضانة.

لن أستغرق بالحديث عن الإهمال الذي نراه بالكثير من العوائل التي ترمي مسؤولية الأولاد على أمهاتهم التي للتو فرغت من مسؤوليتهم في تربية الأبناء ليقمن بتربية الأحفاد أيضًا بدون فرصة للراحة في عمرهن المتقدم المستدعي لأخد قسط منها والتفرغ للنفس.

وأما موضوع الاعتماد على الخادمة، فالغالب يرى بين فترة وأخرى القصص المريعة من المقاطع التي قد تحكي أساليب التعذيب للأطفال الذين يقعون تحت أيديهم حين يكون تصرف الأم مع الخادمة غير عادل.

وأما الحضانة، فأتذكر مثالًا للإهمال فيها أنه كانت إحدى الصديقات تُدير حضانة وحكت لي يومًا كيف أن أحد الأطفال يبقى للنهاية لأن أمه تأتي من الدوام وتنام ثم تأتي له بوقت متأخر.

الأمهات الآن يخشين من تصوير أولادهم بثياب متسخة أو بالبيجامة حفاظًا على برستيج رُقيهن الحضاري في الملبس لأنهن يهمهن رأي الغير في تنسيق الملابس وفخامتها بكونها من أفضل الماركات، وقمة الأنس تأتي بجملة “حلوين ثياب ولدك من وين شريتيهم؟”، لكن للأسف التربية يضمحل ميزانها لتكون ذات ماركة ضعيفة وغير مقبولة ضمن مسؤوليات الراعي الذي قال عنه رسول الله (ص): “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” .

الأم التي يُفرش تراب الجنان تحت أقدامها ربما أصبحت غير متوفرة بكثرة بهذا الزمن، حين تخلت الأم عن امتيازاتها واستخدمت الجاهز من الخدمات التي تأتي عن طريق خادمة مربية يحتضنها الأطفال أكثر من احتضانهم لأمهم ، تعلمهم سلوكها قبل سلوك أمهم التي تنسى أن مسؤولية رعايتهم عليها لا على الخادمة، وعن طريق جهاز إلكتروني يُسكت صغيرها حين يبكي وكأنه إبرة مخدرة ولا تعلم أنه ربما يجعله يسكت كثيرًا حين يكون طفلًا متوحدًا لا يستطيع التعبير جيدًا بالكلام لأن أمه لا تحاكيه ولا تتحدث إليه كثيرًا لانشغالها بجهازها الخاص!

القضية ليست على كاهل الأم فقط، نعم هناك آباء أيضًا لا يملكون معنى كلمة أب وراعي أسرة، لكن موضوع الأم وعاطفتها يكاد لا يختلف عليه اثنان، لكن يبدو أن هذا الأمر في طريقه للتزعزع حين تقرر الأم جعل الأبناء سلاحًا ضد آبائهم ولا تعلم أنها تقتلهم قبل قتله بما تفعله معهم .

منذ فترة من الزمن وصلني مقطع لأب كان ينتظر ابنته حين خروجها من المدرسة، وكان منظر احتضانها وصرخة الفتاة المغبونة كافية للتعبير عن افتقاد حضن الوالد والشوق له لمدة من الزمن، وكانت القضية أن طليقته لم تسمح لطليقها برؤية ابنته في منزلهم، فكان اللقاء في الشارع هو الحل، حيث يكون أمام أعين الجميع ليشهدوا جريمة إبعاد الأب عن أبنائه بسبب الطلاق.

لا أعلم لِما لا يفكر البعض قبل قرار الطلاق بحال الأولاد من بعد هذا القرار، فحين يقرر طرفان الانفصال فهما يقرران عن طرفين لا عن كل الأطراف التي تحوي تلك العلاقة الزوجية، وحين يقع الطلاق تجد هناك من يلوي ذراع الآخر بهم، خاصة حين يجد تعلق الآخر بهم، فالزوج يضغط على الزوجة والزوج يضغط على الزوجة بحسب من يكون عنده من الأولاد، وهكذا يتم الصراع الذي قررا بالأمس إنهاءه بكلمة “طالق” ليحتدم من بعده أكثر ويقع على رؤوس الأطفال.

رسول الله (ص) منذ أكثر من 1400 سنة قال «تزوجوا فإني مكاثر بكم الاُمم غدًا في القيامة».

وقال: «تناكحوا تناسلوا تكاثروا فاني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة».

وفي رواية: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة».

وفي رواية : «تزوجوا الودود الولود، فانّي مكاثر بكم الأمم».

كل هذه الروايات الداعية للزواج والإكثار من النسل ليباهي رسول الرحمة بأمته المرحومة بختام رسالته، ولا نعلم كيف نرفع الخجل غدًا عنه حين يجد أمته المرحومة غدت بلا رحمة ليس على الأعداء لا بل على الأبناء، حيث لم تقتد برحمته بل حملت معاني قسوة الجاهلية الأولى حين توأد البنات وتُدس تحت التراب بدم بارد، فلا يستغرب أن نرى اليوم من يقتل أبناءه وهو يقوم بتصويرهم علنًا من دون أي خجل أو عطف.

يقال بالأمثال ‘يكاد المجرم أن يقول خذوني”، وهو ما ينطبق على بعض المغفلين الذين يعملون جريمتهم تحت أضواء التصوير، ودليل جرمهم يصنعونه بأيديهم التي أرادت التشفي من غرمائهم ليجرهم ذلك لساحة الاعتقال.

بالنهاية أقول لكل المتزوجين ولكل من نوى الزواج إذا لم تستطع حمل مسؤولية الأولاد ورعايتهم والمحافظة عليهم من كل أذى أرجوك لا تقرر الإنجاب من البداية إلا بعد استيقان كفاءتك بهذه النعم، التي يتعالج الكثير من المحرومين من الذرية ليحظوا بكلمة ماما وبابا ليضعوهم في بؤرة عيونهم، وأنت تستهين بهذه النعم ولا تعلم ماذا يأكلون وماذا يشربون وماذا يتعلمون، وفوق ذلك قد ترميهم على الأرض كأنهم شيء من القمامة تم الاستغناء عنه بلحظة غضب من الطرف الآخر.


error: المحتوي محمي