عندما لا يكبر الطفل

علمني ابني ذو السنة الواحدة أنني وهو طفلان.. هو طفلٌ صغيرٌ وأنا طفلٌ لم ولن يكبر.

يكبر رقمُ السنينِ فينا ولكن يبقى فينا طفلٌ لا يزال يحبو وينظر إلى الدنيا في عينِ طفلٍ صغير.. أنا وهو لا نعرف ماذا نريدُ في الحياةِ وماذا تريد الحياةُ منا.. نبكي ونصرخ لكن بأصواتٍ وكلماتٍ مختلفة وعندما نُعطى ما يُعتقد أننا نريد نبكي ونطلب غيره في شرهٍ لا يفنى وقناعةٍ لا تُستأصل في نفسِ البشرِ مهما قالوا ومهما كتبوا من جملٍ يجملونها في أنفسهم.

علمني ابني أن كلًا من الصغيرِ والكبيرِ لا ينظر بعيدًا ويظل يتعثر في الأشياءِ التي يضعها هو لنفسه وتحت قدميه.. تلك الأشياء التي يبحث عنها ويخرجها من دواليبِ الزمنِ كمن يبحث عن كنزٍ ضاع منه، إن أخرج واحدةً قال: ليست هي وأخرج الأخرى.. كلانا يبحث عن بذرةِ الكمالِ في الأشياء التي نلهو بها ونحن بعيدين عن الكمال.. بعد عناءِ البحث نكتشف اللذة في صغائر الأمور والأشياء.

أنا وهو نضحك سريعًا ونبكي سريعًا ولكن صوتَ الألم أقوى وأحد.. نبكي من الألم الصغير ونضحك من المسرة الصغيرة.. كلانا ننظر إلى الباب وكأنه رمز الحرية التي يخرج منها المحبوس إلى الفضاء الأوسع.. هو لا يستطيع فتحَ البابِ الصغير إلى الطريق وأنا لا أستطيع فتح البابِ إلى فضاءِ الدنيا الأوسع.. يكبر يومًا ويعرف ماذا يسجن الكبير!

عندما يمشي طفلي الصغير يثقُ في خطاه ويسرع المشيَ وقد نسي أنه للتو كان يحبو.. عمره سنةٌ وأنا أكثر من نصف قرنٍ لا أزال أمشي أسرع مما يدلني عقلي وتسعني جوارحي.. تجول في خفايا الصغير عواطفُ وأحاسيس يقولها في كلماتٍ تنخفض وتعلو فيها المعاني لا أحد يعرفها مكنونها سواه.. هكذا يقول الكبير كلمات تخرج من شفتيه المرتعشتين لا يفهمها غيره.

إنسانٌ كبير وآخر صغير يطرق باب المعارف بكفيه الصغيرتين وعندما يفتح له الباب يبقى مشغوفًا عنها بما لا يعرف.. تيار الكمال يجرفنا نحو المعرفةِ وكل منا يبقى لا يعرف حقائق الأمور.. ماذا لو كبر عقل البشر مثلما يكبر الباقي من أطرافهم؟ لكن الحقيقة أن عواطفنا وشهواتنا ومعارفنا تبقى في عمر الطفل عند الولادة.

كلانَا نرى كُلَّ يومٍ جديد فيه نكبر ونختمر في ساعاتِ وأيام الدنيا. نجهل القادمَ ونأمل اليوم الأسعد الذي نجلس فيه قبالة موقد الأمل، يضع كفه الصغيرةَ على كتفي المعتق في الزمن بشفقةٍ ويقول: ها هي الحياة فهمتها.. أهز رأسيَ المرتعش وأقول: نعم أيها الصغير فهمناها، أنا وأنت يا صغيري نحب الشمسَ وحرارتها والقمرَ ودفئه والأمنَ في حضنِ من نهوى ويطربنا العودُ والناي.. الفرقُ بينك وبيني أنك محكومٌ بعمركَ الصغير وأنا محكومٌ بعمري الكبير..


error: المحتوي محمي