نسبة قد لا تكون قليلة ممن صنعوا قيماً اقتصادية مؤثرة في التاريخ كانوا أشخاصاً عاديين، ألجأتهم الظروف القاسية للعمل، فشكلوا بمواهبهم وإصرارهم وتحديهم نجاحات منحتهم ومنحت الإنسانية فرقا عظيما بين مرحلتهم الزمنية وما بعدها، العرب يقولون (الحاجة أم الاختراع)، وأعتقد أنَّ هذه الفكرة هي فكرة موجودة لدى أغلب الثقافات، وربما يصح القول إنَّ الرَّخاء قد يكون سبباً مهماً من أسباب الكسل أو الركون إلى المستوى المتاح من الحياة الكريمة، وبالنتيجة عدم المبادرة إلى أي عمل من شأنه تحقيق مزيد من العوائد، انطلاقاً من ذلك فإنَّ أغلب ما يظنه الشباب مثبطات حقيقية في الوضع الاقتصادي الحالي وفيما يتعلق تحديداً بشح الوظائف ربما تكون في حقيقتها محفزات وأسباباً منطقية للتفكير الجاد في سلك مسلك آخر غير الذي اعتادوا عليه وهو مسلك العمل الحر والانتقال من مرحلة البحث عن وظائف إلى مرحلة إنشاء مشاريع تنقلهم إلى مرحلة صناعة الوظائف وتوفيرها للآخرين.
كونوسكى ماتسوشيتا يصلح كما أرى أن يكون مثالا جيدا كشخص فقير ومعوز جداً بل وفاشل دراسياً ومظلوم وظيفياً ليكون درسا حقيقياً لكل شخص تكالبت عليه الظروف القاسية وفصل من عمله أو لم يزل يبحث عن عمل في إحدى الشركات ويلاقي يوميا شتى أصناف المثبطات، هذا الرجل ينتمي لأسرة ثرية تحولت وبسبب قرارات استثمارية خاطئة إلى فقيرة، بل ومدقعة جداً في الفقر، جعلت إخوانه وبسبب هذه الحالة والمرض وعدم القدرة على تحمل تكاليف العلاج يفقدون حياتهم الواحد تلو الآخر، ترك كونوسكى الدراسة وهو في سن التاسعة ليعمل لتأمين قوت يومه وينفق على أمه وفي وظائف تعتبر مذلة كتنظيف الأحذية وجمع القمامة وتنظيف الملابس وبأجور زهيدة جداً بالكاد تسد رمقه، تمكن في مرحلة متقدمة من الحصول على عمل في شركة ما لبثت أن أفلست، فتم تسريح موظفيها، حتى انتقل إلى شركة أخرى للأجهزة الكهربائية والإلكترونية وفيها ظهرت مواهبه مع ما يمتاز به من الأمانة والصدق، فاستطاع الترقي وظيفياً حتى وصل إلى مشرف عمال وهناك قدم أول اختراع كهربائي وكان مقبساً (بريزة توصيل)، وكانت أفضل من التي تنتجها الشركة إلا أنَّ مديره رفض اكتشافه وبكل صلف وغباء ما جعله غاية في الإحباط، هذا الموقف كان السبب الأهم الذي جعله يفكر جدياً في الانتقال من سجن الوظيفة إلى فضاء العمل الحر، فاستقال وقام نفسه بوضع الخيوط الأولى لتأسيس عملاق الصناعة اليابانية، وبالفعل ابتدأ في صناعة منتجه هو وثلاثة استقالوا معه من شركة الكهرباء والخامسة كانت الزوجة وجمعهم جميعاً الفشل الدراسي، وحينما صنعوا منتجهم وفي كوخه الصغير الذي أصبح هو المصنع، صادفتهم مشكلة التسويق ورفضت جميع الشركات استقبال منتجهم ما جعل علامات الفشل واضحة أمام أعينهم، استقال اثنان من العمل وبقي هو وزوجته وأخوها، كان واثقاً من نجاحه وبقي مصراً على جودة منتجه حتى اقتنعت الشركات شيئاً فشيئاً به، فحققت مبيعاته قيماً فلكية تنامت حتى تشكلت أخيراً شركة باناسونيك العملاقة التي وصلت عوائدها إلى 75 مليار دولار في السنة.
كونوسكى ماتسوشيتا ألجأه الفشل والإحباط والفقر والمرض إلى العمل والتحدي والإصرار على تغيير حياته بل وتغيير اليابان، فحقق ذلك حينما آمن بنفسه أولاً وبأنَّه لا شك سيستطيع تحقيق النجاح، ما ينقص شبابنا كما أعتقد هي تلك الحالة من الإصرار والتحدي ومحاربة شتى أصناف المثبطات لصناعة أنفسهم ومشاريعهم الخاصة، وتغيير قناعاتهم المغلوطة من أنَّ الحياة الكريمة متمثلة فقط في الوظيفة، أطفالنا نُعْلِمُهُم أن يكونوا أطباء، مهندسين، طيارين وغيرها من المهن، ولكن قلَّما جداً أن نعلمهم أن يكونوا أصحاب شركات ومصانع، ثقافتنا التي نعيشها وننقلها للأجيال هي ثقافة مغلوطة جعلت حياتنا مع الأسف الشديد حياة عبودية للوظائف ورهن لظلامات ما كانت لتكون لو آمنا بقدراتنا وبأننا لا شك قادرون على تأسيس نجاحات عظيمة، وآمنا قبل ذلك أنَّ أحد أهم أعدائنا هي تلك الشخصيات التي تصر وترسخ فينا أنَّ باب الرزق محصور فقط في الوظيفة.
الشرق