ما فتئ الكثير من خطباء المنبر الحسيني الذين نعوّل عليهم إحداث التغيير في المجتمع يتّبعون الأسلوب الكلاسيكي القديم الذي لا ينسجم مع تطور عقل المتلقي وتفكيره وثقافته وكأنهم يصادرون عقول الناس بمواضيعهم السطحية والقضايا الهامشية، متناسين أن الخطيب ما لم يقنعْ فكلامه محض ثرثرة!
إن كانت الخطابة صَنعة قد يتقنها بعض الناس وتستعصي على آخرين إلا أنها قبل أن تكون صنعة فهي ممارسة عبادية ومسؤولية شرعية ينقلها الخطيب لجمهوره؛ ولذا تقول الرواية الواردة عن إمامنا الجواد (عليه السلام): “من أصغى إلى ناطق فَقَدْ عَبَده، فإن كان الناطق عن الله فَقَدْ عبَد َالله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبَدَ إبليس”.
والمراقب لشأن المنبر الحسيني يجد العجب العجاب حيث إن كثيرًا من الخطباء يعتمدون في تأثيرهم على الفنتازيا وعنصر العاطفة واللعب الجيد على هذا الوتر فيبدأ الخطيب بسرد حديثه الإعجازي منطلقًا من قاعدة هشة أساسها الأحلام والرؤى التي لا تُبنى عليها عقيدة ولا شرع، أو يعتمد على رواية ضعيفة ساقطة عن الاعتبار وكأنها آية منزلة وينتهي المجلس بقصة وقصتين، متداركًا عجزه عن التحضير الجيد للمحاضرة أو مستخفًا بالشريحة التي تستمع له وفي النهاية يجد نفسه أمام فريقين: أحدهما يرفض كل أفكاره والآخر يسلّم بكل ما جاء به!
لدينا مغالاة واضحة وإسفاف في التركيز على الجانب الإعجازي من حياة المعصومين (عليهم السلام) في الوقت الذي ينبغي فيه الاستفادة من تاريخهم وعطائهم بما ينفع الناس ويرفع من منسوب الفكر والمعرفة والأخلاق لديهم، وإنْ لطّفنا العبارة فهناك مبالغة وتحشيد كبير للرُّؤى والآراء الضعيفة حتى لا يظل هناك شك لدى المتلقي لإنكار الواقعة.
نحن بحاجة لطرح القضايا العقائدية والعرفانية والأخلاقية بكثافة فهي التي تعيد الناس لعالم بعيد عن الماديات التي انغمس فيها أكثرنا فأنْسَتنا صلاة الليل والنوافل اليومية وقراءة القرآن ومجالسة العلماء الربانيين وصلة الأرحام وزيارة الموتى وهلمّ جرّا.
من وجهة نظري؛ أن المنابر الحسينية – في أطوار نموها في مجتمعنا – مازالت وليدة تحبو رغم مَرّ الدهور وكرّ العصور وَتَسارع وتيرة المعرفة بين الناس؛ ولذا نلحظ العزوف الكبير عن المجالس؛ لأن اللغة التي يخاطب بها الجمهور هي ذاتها لم تتغير ولم تتساوق مع حجم التغير الكبير الذي طرأ على فكر الناس وسعة معلوماتهم ومعارفهم إلا مَن رَحِم ربي من خطباء مجيدين في الساحة.
وحتى لا يقال: “إن الكاتب يريد مجرد الانتقاد دون المعالجة”؛ نطرح بعض الأفكار التي لو طُبقت ستساهم في تغيير الواقع مثل وجود صناديق اقتراحات داخل كل حسينية أو وضع استبانة لتقييم عمل الخطيب في كل ليلة من ليالي شهر محرم الحرام ومعرفة مستوى استيعاب الجمهور أو أن يشارك الخطيب في مجموعة متخصصة عبر الواتساب للتواصل مع المهتمين وتزويده بنبض المجتمع وهمومه وما يريده وعندها تتضح الصورة لدى الخطباء وتكون موضوعاتهم ملامِسة لاحتياجات المجتمع .
من المهم أن يدرك الخطباء أنهم مطالبون بالحفاظ على الوشائج القوية والعلقة العقدية بين الناس والمنبر ليكونوا عامل جذب باستخراج علوم وكنوز وتراث أهل البيت (عليهم السلام) بما يناسب العقول ويرتقي بالفكر الإنساني لا زجّه في متاهات العاطفة والخرافة والدهاليز المليئة بالثغرات التي تعطي المتربصين الفرصة لاستنقاص المنبر الحسيني والاستهزاء به!