حالمٌ قَصَّ رُؤيا

تطوفُ أرواحُ البشرِ في المنامِ بعوالمَ بعيدة وترى أحداثًا وأناسًا كُلَّ مرةٍ تغفو عيونهم ليس لهم اختيارُ الرحلةِ أو المَشَاهد.. أنا مثلهم ليس لي سلطانٌ أين تسرح روحي بعدما يطلقها جسدي من عقالها.. حالمًا استيقظ أتذكر كُلَّ الأحلامِ وبعد برهةٍ قصيرةٍ تطيرُ مثل ورقةٍ يابسةٍ في عواصفِ ريحِ البوارح.. أحاول قصها على أهلي لا أتذكرها وأهم بتدوينها لا اتذكرها.. أظل حائرًا كما يصف شاعرُ بني خزاعة:
أصبحتُ أُخبرُ عنْ أهلي وعنْ وَلدي *** كحالمٍٍ قصَّ رؤيا بعدَ مدَّكرِ

إن استطعتُ قَصَّ بعضها التبستْ عَليَّ المشاهدُ والأشخاصُ لكن كثيرًا مما أرى في المنام يصير واقعًا أو هكذا أظن.. تتداعى الذكرياتُ وأقولُ هذا ما رأيت! رؤيا المنامِ لم أكن فيها فاعلًا مُوقعًا لما حدث بل كنتُ مرآة عكست ما رأيت مثلما تعكس المرايا الأجسامَ دون إحساسٍ أو إرادة.

أنا إنسانٌ عادي، أحلم في اليقظةِ وفي النوم لكن أحلامي في اليقظة لا تستطيع ارتقاءَ جدارِ الواقع والتحرر منه فتبقى حبيسةً في مرتعه وزرائبه ويطأ الواقعُ هامها وتموت أحلامُ الإنسانِ العادي قبل أن تبلغ الحُلُمْ.. قلةٌ من البشرِ تتمرد أحلامُ الواقع عندهم وتحاول الخروجَ إلى العلنِ مهما علا حائطُ صدها.

أحلامنا في سَكِيْنَةِ الليلِ لا تفر من الحواسِ الخمسة ولا تصل العقل أو الضمير فيها خبزٌ وماءٌ وفرحٌ وحزنٌ وأسفار! كلها تأتي دونما استدعاء ودونما نصب.. أما أحلامنا في النهار ففيها تنهداتُ أفكارنا وضمائرنا وأرواحنا وكل الأبعاد التي لا تستطيع الحواسُ الخمسُ استيعابها ولا ترتدي ثيابَ الواقعِ إلا بعد عناءٍ ربما تضطرب له القلوب ويعجز عنه الجسد.. تعرف الأحلامُ من يتبناها ومن يأخذها من سجنِ الخيالِ إلى فضاءِ الواقع وتأتيه فلو أنها جاءت كُلَّ الخائبين لصار الناسُ كلهم مبدعون ولو أنها أتت كُلَّ الكسالى لأصبح جُلُّ الناسِ مكتشفون.

لا يذكر التاريخُ إلا من لم ترتجف أحلامُ اليقظةِ عنده في رياحِ الواقع بل ارتكزت ورست.. يذكر التاريخُ من أعطى دمه ومن أعطى عرقه ومن بقي ساهرًا بعد منتصفِ الليلِ كيف يُصَيِّرُ الأحلامَ حقائق.. غدًا إن أتتك أيٌّ من الأفكارِ التي تدعوكَ أن تخرج من وادي البشرِ العاديين فاعلم أن الفكرةَ تعرف عنوانك وشخصك ولم تخطؤك.

لو أَعطى الربُّ البشرَ أعمارًا أطولَ مما أعطاهم ربما اتسع بابُ التاريخِ أكثر ولكن الحكمةَ والحقيقةَ تبقى أنه لن يدخل إلا من ترك مرقد الراحةِ والأمان.. أما نحن العاديين “أبشر بطولِ سلامةٍ يا مربع”.. نأتي إلى الحياة نأكل ونشرب ونثرثر كثيرًا ثم نموت وفي طول حياتنا نسأل لما جئنا ولما نحن هنا؟


error: المحتوي محمي