وقفة مع الراحلة الجمعان

لم يكن لها في أبجديات القراءة والكتابة سبيل، لكنها في دروس القيم والمبادئ وقفت معلمةً لأجيال غارسةً أحرفًا من فضائل وأفعالًا جسدها العطاء والصبر وحسن الخلق، إنها صفية عبدالله حسن الجمعان مترجمة أبجديات الحرمان إلى مدارات رحبة في رعاية عيال الله والخدمة الحسينية، وإذ تتنزل الملائكة والروح في ليلة هي خير من ألف شهر رحل نورها بكل سلام قبل مطلع الفجر فبكى أهلهْا حنانَها، وجيرانُها كرمَها، ومعارفُها عطاءها وإنسانيتها.

عاشت الجمعان عندما كانت طفلة ذات ستة أعوام في منزل مصنوع من سعف النخيل وسط المزارع، يهتز بعنف من الرياح العاتية التي عصفت في سنة الطبعة المشهورة عام 1925ميلادية، وكانت آنذاك ترعى أخاها المرحوم الحاج معتوق أبو عبدالرسول الجمعان ذا العامين فقط.

ومن هلع أمها على إخوانها الذين كانوا في رحلة بحرية لصيد اللؤلؤ خرجت من البيت تطلبهم لهول الظرف والليل قد أسدل ستاره الحالك؛ ووجدت الجمعان نفسها مع أبٍ ضرير، فتملكها الخوف وحملت أخاها لتذهب به إلى بيت أخوالها.

من هنا بدأت رحلتها في تحمل المسؤولية لتنتقل بعدها إلى فصل جديد من إنسانيتها، وفي بيت عمها كانت تقوم برعايتهم حيث إن زوجة ابن عمها الحاج المرحوم حسن الجمعان أبو سلمان كانت لا تستطيع القيام بدورها المنزلي بسبب مرضها الشديد؛ فكانت الجمعان تحضر لهم الماء من مسافة لا تقل عن 4 كيلومترات من عين العودة إلى مزرعة السودة وكانت تعمل ما يلزم للبيت وتعود مرة أخرى إلى بيت أبيها لترعى أباها الضرير وأخويها؛ لا سيما أخاها الشقيق الحاج معتوق الجمعان.

ورغم ضيق الحال وتعب الحياة اليومي، إلا أنها كانت كالجبل الذي لا تهزه رياح اليتم والألم فربت أخاها وبنت أختها خديجة التي رحلت عن الدنيا ولها 3 أطفال فأخذت البنت وتكفلت بها حتى تزوجت.

ومضت الأيام ورحل والدها الذي عهد قبل وفاته بالوصية إلى ابن أخيه الحاج أبو سلمان فقام برعايتهم ذلك الرجل المؤمن؛ وبدورها قسمت الجمعان جهدها بين بيت أبيها وبيت عمها حتى توفى الله زوجة ابن عمها الذي أشار عليه أهله بالزواج من ابنة عمه فتزوجها، ومن حينها قامت بمسؤولية البيت بالكامل بكل ما فيه، ورزقها الله منه بثلاث بنات وولدين.

وكان منزل زوجها والد أبنائها الذي عاشت فيه ذا مجلس على الطريق الرابط بين دارين وتاروت فكان “واحة” يستريح فيها الذاهبون والعائدون من وإلى دارين باعتبارها مرفئًا تجاريًا مهمًا لتغذية المنطقة بما تحتاج، وساعدها موقع ذلك المنزل لتكمل حكايات النبل والعطاء كما ساندها زوج محب لإقراء الضيف فتحملت مسؤولية تجهيز ذلك المجلس بما يلزم من الصباح الباكر وبشكل يومي مع رعاية الأبقار وشؤون المنزل ومشاركة شريك حياتها في عمل المزرعة.

وفي يوم من عاتب أخو المرحومة الحاج مكي جمعان ابن عمه وزوج أخته أبو سلمان قائلًا له: “كيف تبقي أختي في هذا البرد القارص وبعيدًا عن الماء الساخن وعن الناس، تتركها بين الضواري وبين المزارع”.. فرد عليه أبو سلمان وهو باسم الثغر: “اذهب إلى البيت وشاهد بنفسك حال أختك وبعدها عاتبني”.

فتركه وذهب من وقته إلى بيت أخته في النخل (سودة)  وعلى غير موعد، وما إن وصل إلى مدخل بيت الحاجة أم علي وتنحنح مستأذنًا بقوله: “يا الله يا الله خية خية”، فأجابته: “مرحباً بك يا أخي على الرحب والسعة تفضل”، فقال متحيرًا ناسيًا ما حصل مع ابن عمه في السوق وعتابه له: “ماذا بكم أرى كثيرًا من النساء في بيتكم؟ خيرًا إن شاء الله!”.

فقالت له: “اسم الله عليك يا أخي لا تخف، إن الذي تراه في بيتنا يتكرر كل يوم”، قال: “كل يوم على هذا الحال!”  قالت: “وفي الصباح وفي المساء”، فقال لها: “مع السلامة قبل أن يأتي ابن عمي فقد عاتبته في السوق وبين الرجال لأنه يتركك هنا بعيدًا عن الناس، وإذا بي أرى هذا الكم من النساء عندك وأنت تقولين إن هذا المشهد متكرر كل يوم!”.

بعدها انتقلوا إلى العيش في بلدة الربيعية بجزيرة تاروت ليستمر العطاء في ذلك البيت تحت راية الحاجة صفية أم علي الجمعان.

ويذكرها حفيدها زكي عبدالرسول الجمعان مترحمًا عليها بقصة قديمة لها في الإيثار وقضاء حوائج المؤمنين، فقال: “قبل 45 سنة كانوا في استعداد سفر إلى العراق وإيران وسوريا لمدة 3 أشهر مع أحد المقاولين المرحومين من أهالي سنابس، وكانت توجد أرملة ضريرة، ومريضة وكبيرة في السن تريد السفر معهم وليس معها محرم ولا كفيل فرفضها المقاول وأنزل أغراضها وأعطاها أموالها معتذرًا لها بعدم السفر مع الجماعة لأن الوضع لا يسمح بذلك، فبكت المرأة وتوسلت إليه أن يقبلها ورزقها على الله فرفض وأمر السائق بالمسير وفي الأثناء تشاورت جدتي المرحومة صفية أم علي مع جدي وقالت له أحب وأرغب في كفالة هذه المرأة التي كانت تسميها (أسعيدية) من عائلة آل سعيد من سنابس، وتربطها صداقة معها ولهما زيارات متبادلة أيام القيظ والشتاء في بساتين تاروت، وقد أذن لها جدي إذنًا شرعيًا فقامت جدتي الفقيدة بتحمل كامل مسؤوليتها فأخذتها إلى المشاهد والأماكن المقدسة وكانت تطهو لها طعامًا خاصًا بها لأنها كانت مريضة كما كانت تقوم بشؤونها وترتيب أمورها مع التنقل بها من مكان إلى آخر في ثلاث دول وحتى انتهت الرحلة التي استغرقت مدة ثلاثة أشهر فسألت المرأة الكفيفة الحاجة الفقيدة: كم تطلبين مني نظير الكفالة والاهتمام؟ فأجابتها جدتي – رحمها الله – بلهجتها البسيطة: “رحمة الوالدين وفي أمان الله ومبرية الذمة ومحللة والله معاك”.

ومسك القلم إبراهيم الحريري حفيدها من ابنتها ليلى الجمعان الذي عاش في كفالتها يتيمًا منذ أن كان في السابعة من عمره وكتب عنها: “كنت أجدها تستيقظ مع الفجر لتقوم بكل مهام البيت واللافت فيها أن الحاج أبو سلمان لم يتخل عن فتح مجلسه على الدوام لكل من يقصده وكانت نفس المسؤولية تقع على عاتقها ومشاركته أعمال المزرعة التي استأجروها بالربيعية (مزرعة الكويتي) التي كانت أكبر المزارع بجزيرة تاروت آنذاك، ذاكرًا أنها وزوجها كانا لا يأكلان من ثمار المواسم إلا بعد أن يوزعوا على جيرانهم منها، وكانوا يرددون: كيف نأكل وجيراننا لا يأكلون!”.

وعن عبادتهما روى الحريري عنهما أنهما من حيث العبادة وخاصة الصلاة فقد وجدها كانت لا تعرف من الحياة شيئًا حينما يرفع الأذان للصلاة، لم تشرق عليها الشمس يومًا من عمرها وهي راقدة بفراشها ولكن كانت تصلي؛ وكذلك في وقت الظهيرة والعشائين وصلاة الليل، كنت أسألها بلهجتي المحلية: “ليش يا أمي تطولين في الصلاة” فكانت تجيبني بقولها: “الواحد يا ولدي يحب يتحجى واجد ويا اللي يحبه، وأني أحب ربي ولي نعمتي”.

وتعلم منها الحريري الكثير في هذا الجانب الروحي، كما تعلم منها حب اليتيم ورعايته وحب الناس وعدم الحقد أو الكره لهم، كان الحي يناديها بـ”أمي” فقد كانت أمًا للجميع، وعن حبها لمحمد وآله، كانت تعطي لمأتم الإمام الحسين (عليه السلام) اهتمامًا خاصًا جدًا، ففي بيت جده حسينية موقوفة للإمام الحسين وهي التي تكفلت بحفظ ورعاية كل ما يلزم ذلك المأتم وحتى تجهيز الأكل لمناسبة عاشوراء فهي عميدة ذلك كله، وما إن يدخل محرم الحرام حتى تكتسي روحها بالحزن والألم لمصابهم (عليهم الصلاة والسلام).

ووجدها مثلًا للإنسانية والعبودية،ومثلًا للصبر وتحمل مشاق الحياة، وثغرًا مبتسمًا مع مرارة الحياة وصدرًا حنونًا وقلبًا رؤوفًا يمسح دمعة اليتيم ويسكن ألم المسكين وينعش الفقير، وجدها مربيةً بفعلها قبل قولها، وجدها عالمًا من العفاف والطهارة ومدرسةً متنوعة المناهج رغم أنها لم تقرأ الكتب، وجدها أم أبيها وأخيها وزوجها وأطفالها وكل من عرفها، وجدها سباقةً للحب المحمدي ومخلصة في ذلك، وعندما رحلت في شهر رمضان وليلة القدر وفجر الجمعة قال الحريري: “لم أستغرب ذلك”.

ويحكي عنها عبدالرسول الجمعان ابن أخيها الذي لازمها معظم عمرها وعمره أنها كانت تخدم الإمام الحسين في أكثر من مكان وضرب مثالًا بمأتم الحاجة خديجة الحبيل (المعلمة)، ولم تكن ميسورة الحال آنذاك بل كانت تمر بأيام ضعف وضيق في المعيشة فكانت تربي الطيور من الدجاج طول العام وتطبخها في أيام المحرم وتخصص يومي أبي الفضل العباس واليوم العاشر، وتعمل الغداء لجميع المستمعين في بيت من السعف يعرف بـ(برستج).

ولا يذكر الجمعان أنه وجد يومًا في صغره باب عمته صفية (أم علي) مقفولًا، فالبيت مفتوح للجميع لا يفرغ من الزائرين كما هو اليوم بعد وفاتها؛ فالباب لا يقفل، حيث إن المعزين والحزانى على فراقها لم يتوقفوا عن الوفود للترحم عليها وتلاوة القرآن لأجل روحها.

ومما يرويه الجمعان على لسانها وهي طفلة أنها كانت تقصد بيت الشيخ عبدالله المعتوق (قدس سره) مع أمها بعدما تنتهي من خدمة البيت وتحضير وجبة الغداء فتذهب لتوصيل شيء من الرطب آنذاك لهم وتتعمد الذهاب في وقت الغداء لإيمان ويقين بأن للشيخ دعوة مستجابة، فتطلب الجدة من حرم الشيخ عندما تضع وجبة الغداء له أن توصل له التحية والسلام وتوصيها بأن يعمل إلى العمة لقمة من الأرز بيده المباركة ويدعو لها بطول العمر، وكلام أمها الذي لم تنسه وهي تقول: “قولي إلى الشيخ إن ابنتي هذه آخر الخلف وعلى كبر سن والموت لم يبقي لها غيرها وأخيها”.. فكانت تقول له هذا العمر يا ابن أخي من دعاء الشيخ – رحمه الله.

وكان بيتهم يقع على طريق الشيخ للمقبرة وكانت عادة يومية للشيخ زيارة المقبرتين؛ مقبرة المصلى ومقبرة الدهر ويقرأ الفاتحة للمؤمنين فتقف عند الباب وقت مروره ماشيًا وعندما يصل ناحية بابهم وعلى صغر سنها وبراءة طفولتها تبادر الشيخ وتلقي عليه التحية قائلة: “صبحك الله بالخير مولانا” فيرد التحية بدعوة خير وصلاح وطول عمر لها (قدس سره الشريف).

وحيث إن فواجع الدهر لا تؤمن، فقد توفي ابنها أحمد وفي جفنيه هم الأرض (مزرعة الكويتي) فتجلدت واحتسبت ولكن بقلب أم مكسور خانه الزمان مجددًا فقالت بحزن وليس اعتراض: “لماذا ابني وليس أنا؟!”.

وأما بنات المرحوم ابنها أحمد فهنَّ كنّ القائمات على خدمتها ورعايتها دون كلل ولا ملل واعتبرن خدمتهن لها توفيقًا من الله سبحانه وعطاؤهن لها عطاء لأنفسهن فهو برٌ بِإخلاص، واعتبرن أنهنّ بفقدها فقدن الدعاء والأجر، فكانت أسماعهن تترنم بِدعائها كل يوم الذي تقول فيه: “يا رب اسألك الستر والطهارة والصلاة” حرصًا منها على أداء الصلاة في وقتها فكثيرًا ما كانت تسأل عن وقت الأذان، وكل هذا اعتبرنه أروع درس بالحياة.

وبعد رحيلها نعتها ابنة أخيها الكاتبة الصحفية حكيمة الجمعان قائلة: “سيرة تقارب الـ100 عام، فعمتي أم علي روح لا تشيخ ومشاعِر لا تنطفئ، ذكرياتها كالحلم الجميل، فيها متعة الحياة والطاقة الإيجابية، التي تمتص كل ما يُعكر صفوَ الحياة، شخصية تجسدت فيها كل الصفات الجميلة، تحمل معنى واحدًا، بقدر ما نُعطي بقدر ما نسعد، هكذا ستبقى ذكرى أم علي، خالدةً في قلوب أحبتها و على ألسنتهم؛ فهي من الجواهر النادر وجودها في الحياة”.

هذه باختصار حكاية الحاجة صفية أم علي الجمعان المضمخة بالكفاح، ترجمت معنى الإنسانية والتدين بأُسلوب حياة بسيط ذي عطاء عظيم، إنها نمثل تاريخًا بلغ قرابة الـ100سنة احتلت فيها القلوب بالحب، ورحلت بهدوء إلى عالم الرحمة والسلام في ليلة الجمعة مساء 23 من رمضان 1439هـ ليبكيها المحبون والأقربون ويصلي عليها سماحة الشيخ عبدالكريم أحبيل، وينعيها سعيد حبيب الشيخ يوسف قائلاً:

ألا يـا موت…!
أعـدْ نـظرًا وكف يدك

النِعْمُ كلـها!
بـل الخـيرُ مـن قصدت

لرضـاه الصِلة..
وبـالآي هـي سُنبلك

هي القدر بـذكـراها
وألـف ليلةٍ أردت

تتنزلُ الملائكُ..
وطهرُ أنفاسـها رفعك

ألا يا تُراب؛
أتعلم ذراتك من ضمِنت

أتُعي الجمعةَ
أن يومها بصفية جمعك

وها هنا لتقف الأيام بـعـدِّها
فهلا توقفت!؟


error: المحتوي محمي