بيوت الرمال

أتذكر وقد كنا صغارًا أننا لم نكن نملك الفراغ الكافي حتى للنوم أو لتناول وجباتنا بوقتها، وذلك من كثرة مشاغلنا التي كانت لا تنفك أن تنقضي واحدة حتى تزاحمها الأخرى استباقًا، وقد كانت كل تلك المشاغل ممتعة لحد الثمالة، مع أنها لا تتعدى مجموعة من الألعاب الخفيفة، والتي أصبحنا نتحسر عليها الآن، ولم نورثها حتى أبناءنا ليستمروا عليها، أو لربما شغلتهم التقنية الحديثة وعالمها بما تحتويه مقارنةً بألعاب بدائية أصبحت ذكرى، أو أنها تعاد في المهرجانات والمناسبات المختلفة فقط.

من تلك الألعاب أننا كنا نصنع بيوتًا رملية أو ترابية بعد أن نخلطها بالماء لتصبح متماسكة، وكان بعضنا بارعًا في ذلك لدرجة أنها تحولت إلى موهبة عند هذا البعض ليتحول المبدع فيها إلى فنان سواء في النحت أو الرسم، أو خلافها من بعض الألعاب الأخرى والتي قد تكون رياضية أو أدبية أو تمثيلية مثلًا.

إن هواية بناء بيوت الرمال كانت مسلية جدًا، وكان الواحد منا حريصًا على التفنن والإبداع فيها، وأتذكر أنه كان فينا المتميز والذي لو أقيمت مسابقة لفاز فيها، وبالمناسبة أظن أن الغالبية تعلم أن هناك مسابقات عالمية لبيوت الرمال وكذلك البيوت الثلجية وما شابهها، المؤسف هو أن هذه البيوت التي نبنيها لا نلبث أن نهدمها بأيدينا وكأننا نقول: “أخرب تعبة إيدي”، وإن بقيت فهي بالكاد تبقى لنهاية اليوم، بشرط أن نحرسها، فلو ابتعدنا عنها كثيرًا لا يلبث أن يأتي من يتعمد هدمها، هذا إذا لم يكن هناك من يحاول هدمها أثناء بنائها أو بعد اكتمالها ليصاب أصحابها بالحسرة والندامة.

من تلك الألعاب أيضًا ما كنا نفعله على أسطح منازلنا، وهو بناء عشش من سعف النخيل أو الكراتين نقضي فيها الأوقات الطويلة حتى تكتمل بالصورة الرائعة التي تظهر عليها رغم المنغصات التي تقابلنا، ومنها التوبيخ الدائم من الوالدين أو الأخ الأكبر على العفسة التي نقوم بها فوق السطح، خاصة ونحن لا نقوم بذلك غالبًا إلّا بوقت الصيف، وهو الوقت الذي يحتاج فيه الأهل كل الأسطح، حيث تنتقل العوائل للنوم عليها وقت الصيف، والقصة لا تحتاج لكثير من الوقت، لأنه بمجرد أن تهب الرياح ولو على استحياء فإنها تقيم ما بنينا من أصوله وكفى الله المؤمنين شر شقاوتنا.

الحمد لله أن أهالينا ورثونا البناء القوي القائم على القيم والمبادئ، والمرتكز على الأعراف الاجتماعية والتعاليم الدينية، والتي هي أساس بناء الإنسان المتكامل، وإن شذ منا من شذ، ولكنه لا ينفك أن يعود وإن خالف وحاد عن الطريق جهلًا أو سهوًا أو عنادًا.

البناء القويم هو الذي تورثه الأجيال المتعاقبة لعقبها، وتسلمه لهم راضين مرضيين وتراقبه ينمو في أبنائها بفخر واعتزاز، خاصة إذا رأوا التحسن والتطور الذي يحدثه الأبناء فيما توارثوه ليكون أكثر نصاعة وبياضًا وتألقًا، لأنهم، أي الأبناء، يريدون أن يتوافق وجودهم وحياتهم مع ما هم عليه وما عليه الحياة من التطور البناء، وربما تنافسوا ونافسوا في الإبداع والرفعة والنجاح.

من الإنصاف أن تسلم الرايات للأجيال بعد الأجيال، ومن الضروري أن تحافظ الأجيال على الإرث الجميل والتماسك الذي خلفه الكبار، فيباهون به المجتمعات الأخرى، ومن الإجحاف أن ننسب لنا نحن السابقين ولجيلنا الذي انتهى أو يكاد كل ما كان وكل ما سيكون، وننسب الفضل للماضي، ونستنكر التغيير الذي يحدث ويخدم المجتمع المحيط من اللاحقين بما يكفل تواصل النجاحات، فضلًا عن المحافظة على البناء، فيجب أن لا يغيضنا أن يتفوق أولادنا علينا بما اكتسبوه منا، وأن يبدع تلاميذنا ليصبحوا أفضل منا أيضًا، وما الضير في ذلك؟ إذا كان يصب في المصالح الأسرية والمجتمعية والوطنية عامة.

هي سنة إنسانية، وعلينا بدل ذلك أن نثني على أبنائنا وإخواننا، ومن يستلم المهمات بعدنا، ونحثهم ونشجعهم ونقف معهم ما داموا يختطوا نفس النهج الناجح، فهنا نحن نحافظ على مكانتنا وأبوتنا وبيوتنا من السقوط، وعلينا أن نعترف بأن هناك من يستطيع عمل ما هو أفضل من عملنا، وأننا قد توقفنا هنا أو هناك ولو استمرينا فلربما يتداعى ما بنيناه، ويتراجع ما حققناه من نجاحات، فيرث من هم بعدنا ركامًا أتت عليه الرياح فأقامته من جذوره، فيبتلي به أبناؤنا ومن يأتى بعدنا، ويضيع بذلك ما تحقق، وتتراجع المكانة وتتضعضع المتانة، وتعود بيوتنا رملية لتذروها الرياح إلى حيث العدم والندم والخسران.


error: المحتوي محمي