قرأت ذات مرة بالحرف الواحد: “يقول الرسام الألماني ماتياس شامب من يوخيوم: هناك وقائع ولحظات في هذا العالم تتطلب عن حق صرخة استهجان؛ لذا فالآن سوف أقوم بهذا العمل نيابة عن الآخرين”.. وقرأت أيضًا أنه يباع بألمانيا حاليًا حقائب ورقية يفترض أنها تطلق صرخة استهجان أمام الأداء السيئ.. وكما تم ذكره تبدو العملية الإبداعية في غاية البساطة، يفتح شامب الحقيبة ويصرخ فيها صرخة استهجان، ثم يغلقها وتصبح جاهزة للبيع.
راق لي اقتراحه الذاتي ولكن! سأجعله حول الكتابة عن أي شيء وهذا علي أن أكتب حيث إن بعض القراء بانتظاري! كنت استعيد عبر هذا الصمت والتوقف الفعلي عن الكتابة، استعادة تشبه العودة على استهجان نائم داخلي.. ثمة أمر مشتعل لا أدرك ماهيته ولكنها خلطة إنسانية، من التوازن والجنون والطهر والبراءة والحاسة السادسة وحب الحياة والقلق، والرغبة بالكتابة والتي تحتاج إلى جرأة أدبية لا يملكها كل الناس.. نعم تحتاج إلى جرأة، هذا صحيح، لكن الكتابة بصدق وعفوية تحتاج إلى جرأة أكبر.. هذا تحدٍ بالنسبة لي، أن أكتب بالحرية التي أملك وأنا أعلم أن ما سأكتبه سيقرؤه البعض بينما يستهجن البعض الآخر من القراء.. فكرت في كتاباتي غير المستمرة، تلك الأرجوحة المترددة بين الشوق واللقاء وبين الانتظار والتواصل.
قالت لي إحدى العزيزات: “إن بعض الإسقاطات الاجتماعية هي تعبير سلبي عن التمرد والتجاوز، التي يستحيل التخلص منها.. احتاج إلى عمر بأكمله، وإلى عمر آخر ربما كي أدرك لماذا كل هذه السلوكيات السلبية تمارس هنا وهناك دون حق، رغم أنه لا علاقة لي بذلك؛ فقط إشارات سلبية تجتمع الواحدة تلو الأخرى، وتثقل على قلبي وتجعلني أفهم بطريقة ما ما يحدث هنا وهناك.. كل هذا يقلقني ولا يشعرني بالراحة، لم أعد متأكدة من أي شيء إزاء سلوكيات يومية حقيقية وواقعية من البعض ولا يقارن بأي خيال! مواجهة ومساءلة الآخرين سهلة، بينما الصعوبة تبدأ عند مواجهتك نفسك ومساءلتها حيث لا أقنعة، حيث لا شيء، أفكر لا يوجد شيء، كل ما يسمى أن هناك فقاعات من الكذب وكثير من جلد الذات واحتقارها، بل هناك تتوالد وتكبر فقاعات الكذب والمراوغة والإسقاطات والتطاول وغيرها من السلوكيات التي تتكرر في بعض المجتمعات.
أتذكر عند وفاة صديقتي أم ماهر سلوى داهمتني إحداهن بسؤال فارغ المحتوى وأنا في منتهى حزني! كم عمرها؟! من يستطيع طرح هكذا سؤال في سقوط شامخ كسلوى؟! وماذا يعني لها عدد السنين التي عاشتها سلوى؟! هنا كلمة استهجان قليلة في حق هذا التجاوز غابت سلوى فجأة منذ ثماني سنوات.. اختفت بلا مقدمات عدا نكسة صحية، ورحلت بعد عيد الفطر بأيام؛ محدثة صدمة في قلبي وقلوب أسرتها، وصدمة بين الطالبات بالمدرسة من جيل كامل.. فقد كانت كعادتها هادئة دمثة الأخلاق، وأجزم دون مبالغة أن كل من عرف وتعامل مع سلوى اندهش من طيبة شخصيتها وكرمها العظيم.
ملأتني أحاسيس مختلفة حين بلغني نبأ وفاة سلوى، لا يمكن أن تمر مناسبة دون أن تكون أول الحاضرات بحضورها المتميز.
كل مرة أتساءل حين نتحدث عن هذا الانتماء للأمكنة: كيف أستطيع يا سلوى أن أتصالح مع الأمكنة دونك؟! وفي الأخير امتلكت الجرأة وسط استهجان البعض ووجدت الخلاص في الاستقرار النهائي حيث لم استطع العودة دون رفقة سلوى!
بعد ظهر يوم العيد الجمعة كل شيء عادي؛ القطيف هادئة لكنني رغم ذلك أشعر أن الموت يقترب بعد أن زرت أمي الساكنة في قبرها، قضيت وقتي هناك أتحايل على الموت، ثم بعد حين بدأت بتعداد خسارتي دون أمي التي يرافقني صوتها رغم رحيلها منذ سنوات! نعم لم أعد أسمع صوتها الحنون! يا ترى هل أستحق الحياة من بعد أمي؟! رغم أن الحياة فراق وفقدان إلا أن وجود زوجي الرجل الإنسان سعادة لي.. لكنني لن أنسى ليلة العيد فقد أسميتها ليلة الهدايا حيث أهدتني إحدى القريبات لقلبي هدية مميزة جدًا وأهداني ابني سامر هدية مغلفة بأناقة كعادته، وأنا أفتحها أخذت نفسًا عميقًا وكأنها المصدر الوحيد من الهواء لي.. قد يستهجن زوجي الآن مصدر سعادتي، وقد يغرق من الضحك لعدم وقوفي عند هديته التي صنعت لي رواية تكفيني سعادة العمر كله ولن أرتوي من كرم زوجي معي.