احتدم الجدل وزاد النقاش حول الأداء المتواضع للمنتخب السعودي في المباراة الافتتاحية التي جرت أمس الأول، وبهزيمة ثقيلة قوامها 5 أهداف للا شيء، وبجردة حساب سريعة لشبكة مرمى المنتخب، فإنها تنوء بتخمة من الأهداف التاريخية في المباراة الواحدة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كلنا يتذكر 4 فرنسا- كأس العالم 1998 (فرنسا)، وكارثية 8 صفر من المنتخب الألماني في كأس العالم 2002م (كوريا واليابان)، و٤ من اوكرانيا 2006- كأس العالم بألمانيا، وكذلك 8 صفر من البرازيل في بطولة القارات (المكسيك1999)، وأيضًا خماسية نيوزلندا ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم 1982م في الرياض، و٦ صفر من ألمانيا في أولمبياد لوس أنجلوس 1984م، وسبعة من العراق في دورة الخليج 1976م ، والقائمة تطول.
وهنا لن أنكأ الجراح، وأيضًا لن أخفف الوطء من آثار هزيمة المنتخب السعودي الذي تعرض لها من المنتخب الروسي في أولى مباريات المحفل العالمي، وأيضًا لن أبحث عن أسبابها ومسبباتها، فكل وسائل الإعلام ضجت واستفاضت تحليلًا ونقدًا قاسيًا، فلن آتي بجديد من قول أو رأي، الذي يعنيني هو العدد الهائل من السخرية اللاذعة التي امتلأت بها وسائل التواصل الاجتماعي بالنكات المضحكة، والمشاهد الهزلية، والكمية الهائلة من التهكمات، والقفشات الفكاهية، ورب قائل يقول: بسبب التفاؤل المبالغ فيه من إعلام أو جماهير وكأنه تخدير لمن لا يرى ويقرأ بوضوح واقع الحال، من منطلق “رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه”، وحتى لو نسينا هذا القول أو تذكره البعض، ما هو مبعث هذا الكم الهائل من السخرية؟ هل هو محاولة للخروج من حالة المفأجاة، أو تخفيفًا من وقع الصدمة، والتي أتت قاسية بالخمسة كمباراة افتتاحية غير متوقعة وأمام أعين العالم.
لماذا نزلت هذه السخريات كرش المطر ونحن في عز الصيف، هل لتخفيف حرارة الهزيمة الثقيلة؟! أم الأمر تهدئة لحالات الإحباط والخذلان، يقال إن السخرية هي مرآة صادقة حقيقية لمزاج المجتمع، وهي مساحة حرة للتنفيس عن الكبت “فشة خلق”، لإبعاد حالة الضيق أو النكد التي تسيطر على النفس لا لشيء وإنما لأمر خارج عن إرادتها، وليس لها يد ولا رجل في الأمر، بل كانت تأمل بأفضلية حسنة أو إيجابية، وهل صحيح (ما أهون الحرب عند المتفرج)، لكن هذه المزاجية أيضًا غريبة الأطوار وتنقلب بين ليلة وضحاها من حال إلى حال، وخير مثال المباريات الودية قبل المونديال للمنتخب السعودي الكل طبل وزمر، بأننا جاهزون وبقوة لهذا المحفل الكروي، وفي نفس السياق لو حقق المنتخب نتيجة شبه إيجابية بأي صورة كانت ، لرأينا المدح والتطبيل على “قفا من يشيل”، وبين حلات الفوز والخسارة تكمن المفارقة “النصر له ألف أب، لكن الهزيمة يتيمة”، هذا هو حالنا ويمتد بعد كل إخفاق يلامس الناس سواء في الكرة أو غيرها، ولا أظن أن المجتمع السعودي هو الوحيد دون خلق الله في استخدام السخرية، “تراث أمة العرب” مليء بما لذ وطاب من ألوان السخرية، وأيضًا من يطلع على الأفلام الكوميدية السينمائية حول العالم، وكذلك رسومات “فن الكاريكاتير” الموزعة في صحف الغرب والشرق، كلها تنضح بألوان من السخرية اللاذعة والمرة.
على كل شرائح المجتمع من رأس الهرم إلى رجل الشارع البسيط، كل هذا بمثابة استجابة انفعالية للحظة آنية أو وقتية، وقد تكون مخرجًا للعلاج من تأزم الحال لقضية ما أو مشكلة تهم المجتمع في عيشه أو حتى في تسليته وهواياته، رغبة في مسعى للتغيير، فالسخرية في عمومها هي سلوك عفوي وطبع من طبائع البشر.
ولن أفصل فيها كثيرًا، وبغض النظر عن اتجاهاتها سواء اجتماعية أو سياسية أو رياضية، مهذبة كانت أو فضة، فقط سأقتبس أحد تعريفات السخرية “تقدم السخرية صورة هجائية عن الجوانب القبيحة أو السلبية في الحياة، كما تصور معايب المجتمعات ومفاسدها، وحقائقها المرة بإغراق شديد، حيث تظهر تلك الحقائق المرة أكثر قبحًا ومرارة”، والسخرية مراوغة بامتياز، فكلما ضاقت السبل عن البحث الجدي في أمر ما، نتيجة ضعف أو قصور أو نقص، أطلت السخرية برأسها ودخلت علنًا من الباب الواسع، “عندما يعجز الجد عن البيان، تسارع السخرية في التعبير”.
والحديث عن السخرية ذو شجون، ولن أفيض فيها كثيرًا، طالما نحن في أجواء الأعياد وفي فرح وسرور وفي بداية انطلاقة المونديال العالمي 2018، وهو كأس العالم لكرة القدم الذي يأتينا كل أربع سنوات، ولي فيه من الذكريات الكثير والكثير، بدءًا من مونديال 1974 إلى وقتنا هذا، فلن أتطرق لتلكم الذكريات بكل ما فيها من زخم، والذي سأرجئه إلى أجل غير مسمى، سأكتفي بسرد بعض من ذكريات عهد الصبا المتعلقة بـ”كرة القدم” سواء مفهوم الكرة في الذهنية المجتمعية البسيطة، أو اللعب بين أزقة البيوت القديمة، ضمن نطاق الحارات الشعبية، سأستعرض مشاهد حقيقية تحضر فيها روح الطرافة والبراءة والشقاوة معًا.
المشهد الأول:
كان أحد الخطباء العراقيين يقرأ في حسينية الشايب بتاروت واسمه “ملا سيد حسن شبر”، وهو من أكثر الخطباء المطلعين عن الفلك والذرة، خصوصًا في وقت سنة صعود الإنسان للقمر 1969م وضمن حديثه المطول، وهو بالمناسبة فوق مستوى الناس البسطاء، قال: “أما الكرة الأرضية، فهي تدور حول نفسها خلال اليوم الواحد و….”، كان بجانبي حجي ( ……) الله يرحمه، يرد على هذا القول بصوت خفيض متهكمًا على قول الملا “الله يلعن الكرة واللي يلعب بها واللي بدعها واللي سواها”، ضحكت واضعًا رأسي بين ركبتي وسمعت وشوشة ضحك مكبوتة لمن كان أمامي ومن خلفي.
المشهد الثاني:
كان والد أحد أصحابنا يحذرنا من لعب الكرة تمامًا مثل أبي، وهو حجي (….) يتحرطم من هذه الكرة متحدثًا لنا، ونحن جلوس في أحد الدكاكين القديمة، يعبر لنا عن غضبه من الكرة لأن يد ابنه الأكبر كسرت نتيجة لعب الكرة “ويش تستفيدوا من هالتمبة غير البهدلة وتنتيف البدن بالطيحات، ولتعور ولمكاسر ويش الله محتم عليكم لعبها، علموني ويش الفايدة من هالمشابق وهالمصايح وهالمناطط، علويش على من هو أكفر واحد يغلها فوق فوق في السماء! هذي الشطارة فيكم…)، نرد ببراءتنا اللعب هو فرقتين وشبكتين كل فرقة تحاول تسجل هدف في شبكة الفريق الثاني يعني مثل الحرب، ويرد علينا: “إيه اقتلني واقتلك، عجل لكور تغلوها وتوصلوها لسطوح لبيوت ايلاويه”!
أما المشاهد القادمة، فقد صبت علينا فيها اللعنات مثنى وثلاث ورباع.
المشهد الثالث:
كنت ألعب مع ابن عمتي في إحدى الدروب الضيقة “ساباط الديرة” كل يمرر الكرة للآخر بمسافة 8 أمتار تقريبًا، كانت خلفي امرأة سوف تأتي وتخترق مساحة اللعب بيننا، لحظئذ لعبت الكرة لقريبي لأنه هو الأبعد عنها وبدلًا من أن تصله الكرة ارتطمت بزاوية البيت وترتد مباشرة على مقدمة رأس المرأة العجوز، ومن شدة الضربة فقد أوجعتها فأنزلتنا سبابًا وشتيمة، تركنا الكرة والسباب يلاحقنا.
المشهد الرابع:
ثمة مساحة لابأس بها أمام “مسجد الشيخ علي” وسط بيوت تاروت القديمة، حيث يحلو اللعب عصرًا مع رفاق الطفولة، وأظن الجو كان رطبًا من أيام “القيظ” في شهر رمضان، نلعب فرقتين والشبكة عبارة عن حجرتين أو علبتين معدنيتين، أحيانًا يأخذنا الحماس فلا نبالي من هو القادم، أحد نساء الحي تجوب مسافة اللعب بين بيت زوجها وصولًا إلى بيت والدها، وهي مسافة ملعبنا الصغير، وتحسبنا نعاندها حينما تمر، فنحن نقترب منها دون أن ندري من تكون، وبينما نحن في عراكنا لتسجيل الهدف، فإذا بها تمسك الكرة بيديها لتحرمنا منها بعد تحذيراتها السابقة، فجأة قامت بطرح الكرة أرضًا وبحركة منها سريعة ضغطت عليها بقوة برجلها اليمنى غيضًا وقهرًا فينا، وإذا بالمرأة تتدحرج أرضًا و”تتشقلب” بالتراب وسط غبار الدرب وتتأوه ألمًا، ظنت المسكينة أن الكرة مثل البالون ستتفرقع حالًا، لكننا نحن الذين تفرقعنا ضحكًا، ورؤوسنا تطل مثل القطط الوجلة بين زوايا الجدران، لكنها انتقمت من هذا الموقف الذي ليس لنا ذنب فيه، مرت في اليوم التالي وأمسكت بالكرة ثانية وذبحتها بالسكين إلى نصفين؟!
هذا هو حال بشر الكرة الأرضية، جماهير الكرة في كل المعمورة ينقسمون قسمين؛ جمهور يندب حظه بعد الخسارة وآخر يطير فرحًا من نشوة النصر.
أي سحر فيك يا كرة القدم
يا ساحرة الملايين