صلابة فن.. وصهيل خيل 6-6

بعد أن فرغ الفنان كمال من عمله النحتي، أرسل لي بعضًا من صور لمراحل إنجازه، من لحظة الكتلة الرخامية (الخام) ووضع الخطوط الأولى، والمباشرة في التنفيذ، مرورًا بكل خطوات وسير العمل، إلى غاية الانتهاء من المجسم في تكوينه وشكله النهائي، وقد أبلغني شخصيًا عن فحواه:

“صديقي الوفي رقيق الحس والمشاعر، تعرف جيدًا محور أعمالي الحصان، ولكن مناخ الديرة وبالذات رحاب مدينة الرسول الأعظم عليه وعلى آل بيته أفضل الصلاة والسلام، من الصعب نحت الحصان.

العمل أسميته “هجرة”، رمز إلى هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، على الدواب ومنها الحصان، ويتكون العمل من ثلاثة رموز:
الأول – السرج ويرمز إلى الحصان أو الدواب.
الثاني – الفتحة التي ترمز إلى الانفتاح أو الفتوحات الإسلامية أو الأمل والتفاؤل، وغيره

لقد أرهقتني جدًا عملية حفر الفتحة، خاصة عدم وجود مساعد مع النحاتين، وكنت أتمثل موقف “بلال” أحدٌ أحد، أقولها عدة مرات، لأن التعب أضناني والإرهاق استنزفني، أرددها آلاف المرات، فتتسلل طاقة تزودني عزمًا وتمكنني قوة ومقاومة.

الثالث – الوحدة، الزخرفة التي تتوسط العمل، استعرتها من إحدى زخارف المسجد النبوي الشريف ووضعتها كالشمس، وهى رمز إلى إشراقة الدين الإسلامي.

ولله الحمد، كثير من المتلقين وبعض الفنانين أشاروا بالتميز والاختلاف عن بقية الأعمال، حيث جميع أعمالهم تتمركز على التكوين والخطوط اللينة أو الزوايا التي إذا سقط خط هنا ذهب إليه هناك، كان التحدي بيني وبين نفسي أن أضع السرج بصورتين مختلفتين من جهه شبه واقعية، والجهة الثانية خطوط بتكوين حديث، وكان الحرص على عدم تجاوز تلك النقاط في الرخام، حيث كما هو معروف أن كل الإبداعات الفنية بها الحذف والبناء، والبناء والحذف، إلا النحت على الحجر أو الرخام، حذف بلا بناء، كما العمر ما مضى لا تستطيع استرجاعه!

من خلال تجربتي عرفت حجم بعض “النحاتين” على الحجر وجدتهم لا يرسمون أبدًا، ولهذا أعمالهم تتمركز على التكوينات فقط بلا مواضيع ويعترفون بذلك”.

ونحن نعترف بأنك كنت الأميز في كلا الملتقيين، (سمبوزيم/ الخبر والمدينة المنورة) ، ألم يقل لك أحد النحاتين المعروفين صاحب تجربة ٣٠ عامًا في النحت الحجري منذهلًا من مجسمك “سخا” في نقوش الخبر، هو يتأمل شموخ العمل ويتمتم: “هذا أول عمل لك يا كمال ولديك كل هذه الجرأة والتصميم المنفرد، إنك حقًا فنان مدهش” وتمتد الدهشة لحيز الاستفهام للنحات السوري “ربيع الأخرس” صاحب مجسمات الخيول المميزة، مسائلًا نفسه: “كيف لي لم أتطرق إلى الحصان من هذه الزوايا التي تطرقت إليها، وكيف تغيب عني!”.

وتملكت الحيرة والصدق والصراحة النحات العراقي “علي نوري” في سمبوزيوم الصين بعد إنجازك لمجسم العاديات، حيث قال لك: “كل مجسماتنا في هذا الملتقى يغلب عليها العمل التجاري، إلا مجسمك فن للفن، فن للفكر، بوداعتك يا كمال أنت من السعودية؟!”، ونختم بقول الصحفي الأديب ميرزا الخويلدي: “طور المعلم، فن النحت، والسدو، كما أسهم في تطوير الفن التشكيلي ذاته، وزاوج بين الأعمال الزيتية والأعمال النحتية التركيبية، لكنه حين اكتشف الفرس، أصبحت لوحاته أكثر فروسية، وأرخى على الخيل العربي عنفوانًا جديدًا، جاعلًا منه كائنًا يتمطى داخل مضمار اللوحة أو فضاء المجسمات، مطلقًا صهيلًا يشي بالكثير من الحياة والحركة، ولدى كمال المعلم قدرة على تطويع الخامة الفنية لتصبح أكثر قدرة على مخاطبة مشاهدها، وأكثر إثارة واستفزازًا، وهو فنان مشدود للتراث، ويؤسس أعماله برؤية احترافية، تجعله يتجاوز الإطار الشكلي للعمل الفني، حافرًا في الدلالات الفلسفية العميقة”.

وكم هي الشهادات التي قيلت في حقك أيها المبدع، وكم نتطلع إليك في ربوع جغرافية الوطن، ففي الأعوام السابقة، كانت مواسمك هجرة للشرق، وبإشراقة هذا العام هاجرت إلينا للداخل، فأعطيتنا كنوزًا رائعة، بعد فتوحات الفن في بلادنا وتمكينه تفعيلًا في بنية المجتمع، سعيًا لقيم الخير والجمال ورقي الإنسان، وبكل الحب وبكل الألق لأناملك التي لا تكل ولا تمل من تجسيد الجماليات عبر الخط واللون والمجسم.

وبعد كل مشاركة يسألونك: “ماذا سيقدم كمال بعد؟”، تجيبهم بلا طنطنة وتقول بكل ثقة إن في جعبتك الكثير لتقدمه، رهانك على فرسك لا يخيب أبدًا، فأنتما توأمان في كل محفل تكسبا السباق فنًا متميزًا، يختلط صهيل خيلك مع صوتك كلما أقدمت على أي مشروع تقول “أكون أو لا أكون”، بثقة مطردة وجرأة وإقدام، بفكر ثاقب وعمل واثق بصلابة فن، وصهيل خيل يتردد صدى نحو الآفاق بلوحات مسطرة عنفوانًا، وصروحًا شامخة في بلاد المليار والنصف ، مشاعل وضاءة حاضرة على جيد البلاد، وذخيرة حية على مر الأجيال، أينما اتجهت وارتحلت، فنك خير سفير للوطن.
قالت العرب: “لكل امرئ من اسمه نصيب”، أي نصيب اكتسبته من اسمك؟ فأنت لا ترضى إلا بالإتقان، هاجسك دومًا البحث عن أوجه الكمال، أنت اسم على مسمى، إنجازاتك معالم فنية، ومكانتك علم مرفرف في سماء الوطن، ومعلم قدوة لكل الطامحين، أنت مجموعة فنانين في إنسان، عند كل وعد ومحفل دومًا مبدع.

أيها الخطاط،
أيها الفنان،
أيها النحات،
أيها المبدع ليل نهار،
أيها المبدع على مدى خمسين عامًا، وبكل ما فيك من ألق الحضور، ثمة حزن يرتسم على ملامحك، أي حزن مخبأ فيك؟ هل هو حزن ممتد منذ الصغر لفقد الوالدين، لأم لم ترتو بعد من حنانها؟ أم رحيل أب في مقتبل العمر؟ أم ثمة أوجاع غير مرئية؟، ألم تقل لنا في خاطرتك الشعرية المغناة في معرضك “فرسي”: “مثقل أنا بإحساسي يتيم في كفني، فكيف ننعي جوادًا لم يكمل المشوار…”؟!

هل حزنك هو أحزان أمتنا؟ جواد يسألنا والريح، هل ولى زمني؟ هل غادرني الفرسان إلى غير رجعة، هل هجرني الشعراء؟ ياجوادًا لم يكمل المشوار، ننعاك بدمع العين، قرائحنا فاضت، ونصالنا تكسرت، نربت على محياك ألف وصف ووصف، يهبك الفن وأهله بارقة أمل، بهجة من ألق، جموح حزنك مسافر عبر الغسق، خيولك يا كمال متشحة بالأحزان، مضمخة بألوان الفنون ونفحات الجنون، بإيقاعات الصهيل، خيول دون فرسان، تباغتنا إقبالًا من أفق الحماسة والفخر، وأنفاس الفجر، قدوم لتاريخ صليل السيوف، والتماعات أسنة الرماح وفتوحات الكر والفر ومشاعل النصر واجترار الأوجاع، “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”، بكل الأسى والحسرات تلوننا مرثيات الأمس فتنة من جدل، ونعيدها استحضارًا، بنار الوغى وسبي القبيلة، انقلب واقعنا على ظهر المجن، خيول ترمقنا بدمع العين، أتعبها الحزن والترحال، فرسانها رحلوا، وظننا حملنا الرايات بالنيابة عنهم؟ راياتنا خطفتها الثارات والرياح الحواصب، عدنا على أعقابنا، نندب حظنا والأسى، نذرف الدمع مدرارًا، إنا أضعنا البوصلة، فارتدت الرماح على صدورنا، أجسادنا فرت من قسورة، تبددنا طرائق قددًا!

أيها الجواد المتعب، أيها الجواد المنهك، أأنت نحن أم نحن أنت، ننعاك أم ننعي أنفسنا، يا جوادًا كف عن طرح الأسئلة، نحن في زمن بلا أجوبة! أيها الجواد لونتك وجسمتك أنامل كمال المعلم دون عتاب، لكن خيولك أيها الفنان تتناسل روحًا عبر الزمن، ولها وجه وألف وجه، جموحها مسافرة عبر الأمكنة، مع الريح آتية من عمق الأزمنة الغابرة، عابرة الوهاد والسهوب والتلال والأمصار محملة بإرث الفرسان والفاتحين محملة بالأسفار، متوشحة بروح العصر تنبض بالأصالة والمعاصرة، خيلك يا “كمال” لا يشق لها غبار، مطهمة بالفرح اللوني، والإبداع الكوني.

همستك نسمعها:
فرسي.. هل نكمل المشوار.. أم
السباق لم يزل طويلًا؟


error: المحتوي محمي