إن أثر كمال المعلم على ساحتنا التشكيلية السعودية بالغ الأثر، سواء حراكه الفني الشخصي أو للمجتمع التشكيلي الذي ينتمي إليه، خطان متوازيان أفنى العمر تضحية في سبيلهما.
ففي مشواره الوظيفي ثلاثة عقود مرصعة بنجوم العطاء، تبرق في سماء الوطن، سجل حافل بمهام ثقافية، وإدارة فعاليات، وتنظيم معارض لفناني المملكة داخليًا وخليجيًا ودوليًا، وكذلك الإشراف على مراسم الأندية ومتابعة الأنشطة المسرحية، وإقامة الدورات وتحكيم المسابقات التشكيلية.
رؤياه مقدرة عند المسؤول وللعارف المثمن، واستحقاقًا لذائقته اللماحة فنًا وتبصرة من جمال، عين مستشارًا فنيًا لمشاربع ثقافية وفنية عديدة، سيرته الذاتية عنواين فخر ومجد، كل عنوان يحتاج لبحث وسرد مستفيض.
كمال طاقة جبارة متوثبة على الدوام، يملك حسًا فنيًا رفيعًا عاليًا ومواهب متعددة (الخط، والرسم، والنحت، والديكور ) يندر أن تلمس ذلك عند غيره من فنانينا، يقبل على المغامرات الفنية بكل إصراروتحدٍ، لايعرف المهادنة، ابتسامته قليلة، جاد في كل شيء، معتز بقدراته وإمكانياته الفنية لأبعد حد، قادر على العطاء في كل مجالات الفن، لكن بتواضع في القول والإفصاح، وبكل صراحة ووضوح الإعلام أهمله، وإن تحدث عنه فعلى استحياء، وحتى الذين أرخوا لتاريخ الفن في بلادنا لم يوفوه حقه! وكل إنجازاته لم تحظ إلى الآن بدراسة نقدية جادة.
كمال فنان مكافح منذ صغره وإلى أن اشتعل رأسه شيبًا، مكافح بكل ما تحمل الكلمة من معنى، الإخلاص ديدنه، والصدق سجيته، والإتقان طبعه، يقف على قاعدة صلبة من التأسيس الأكاديمي بموهبة متجذرة، وذائقة فنية رفيعة، وأنامل قادرة على تطويع الجماد فنًا نابضًا بالحياة وألق الجمال.
فهو بحق قامة عملاقة سامقة في سماء الفن، فكل ما دونته عنه من سطور هو استحقاق لمسيرة طويلة ممتدة لخمسين عامًا تقريبًا، تطواف نحو عوالمه برؤية عامة وليست تفصيلية، مقاربات لبعض سيرته الفنية، والاقتناص من هنا وهناك من ذكرياته، التي أغرقني في لججها، وكم تخليت عن كثير منها، ولو أصغتها حسب رؤيتي أو استشهدت بكلها لطالت الحلقات إلى ضعفها وربما أكثر! فكل منجز من أعماله محتاج لقراءة نقدية متأنية، سواء اللوحات التشكيلية أوالمنحوتات أو المجسمات الضخمة، كل منها يحمل عمقًا في المبنى والمعنى ورؤى دلالية متعددة القراءات، ولا أبوح سرًا، فقد ركنت جانبًا بدايات نشأته مع الألوان والرسم لأن هذا الموضوع ذو شجون ويطول مقامه، حاولت جاهدًا أن أعرج على أهم محطات إنجازاته والاقتراب من تخوم إبداعاته، وكم هو صعب أن تقترب من مملكته الفنية (محترفه الفني)، بل من النادر أن يستقبل أحدًا في مرسمه إلا المقربين لديه، كاتب السطور له مكانة خاصة عنده.
بعد أن تقاعد الفنان كمال من عمله، وهب جل وقته لكل ما هو مؤجل من أحلام، عاكفًا لإخراج معرضه الثاني (التنور) المحمل بأرغفة خبز الحياة، بحجم نسق معرضه الأول (فرسي) لكن أكثر توهجًا منه، بنصوص شعرية (لقاسم حداد) وصوت غنائي وموسيقى تسمع وتشم عبر الفيديو آرت، يؤطر المشهد بعرض متفرد، ويبدو أن الاشتغال سيطول زمنه! إلى حين إعلان الافتتاح لأجل غير مسمى ستظل حواسنا جوعى لأرغفة فنه، متلهفين لما هو منتظر، منتظرين تعانقات فنونه مجتمعة مجددًا في قوالب جمالية غير مسبوقة، نعم منتظرين منك الدهشة! مثلما أتيتنا بها وأنت قادم من بلاد الرومان، أتيتنا وأنت تمتلك صلابة الفن.
وثمة سؤال ينتظر جوابًا، لم نكن نعرف عنك قبل أن تغادرنا إلى إيطاليا أي عمل نحتي، ولا حتى مجسم صغير، كنا نعرف عنك قبل الدراسة قدرتك في الخط ورسم اللوحات، أتيتنا بقوة في التصوير الزيتي والباستيل والمائي، وهو مجال تخصصك، كيف امتلكت ناصية النحت وتحديدًا الحصان ولا سواه من الكائنات الحية، عكس لوحاتك خرجت بعض الشيء هنا وهناك لمواضيع أخرى؟
أجابني بشكل مسهب وانتقيت جزءًا منه: “بين الخط والرسم يكمن في داخلي الكتلة، ربما أججها ذاك الحصان “أودرم” وتلك الفرس “ستار” اللتين منحني إياهما أخي الكبير عبد الوهاب رحمه الله في سنوات مختلفة عندما اشتراهما من منسوبي أرامكو، تلك الكتلة كانت تتحسسها أناملي عندما كنت أنظفهما بالماء والشامبو الأحمر التقليدي، أو ذاك الزمان العتيق عندما وضعني أبي رحمه الله على صهوة الحصان إبان طفولتي، امتلأت يداي بتلك الكتل وأخذت أشعر بتضاريسها لحين ذهابي إلى فلورنسا ذات المتحف الكبير من المجسمات، عندما أمشي في شوارعها وأروقتها تسرق مجسماتها بصري، وعند مدخل الأكاديمية يجمح مجسم حصان كبير يلقي التحية على الداخل والخارج من الطلاب والبروفسورية، وكذلك متحف تمثال دايفيد الشهير لمايكل أنجلو في نفس مبنى الأكاديمية، أراه منتصبًا عند الحضور والانصراف.
وأثناء الدراسة كنت أبحث باستمرار عن ما هو جديد ومفيد عن الفن، لم أتردد بالاستفادة منها، وعند ذهابي إلى قسم الرسم الذي كان في الطابق الأخير في مبنى الأكاديمية يكون قسم النحت على يميني، كل هذا كان استفزازًا للحراك الثالث بداخلي.
ذات يوم استأذنت البروفسور “تروفاللي”، الله يرحمه، مشرفي الأكاديمي، للذهاب إلى قسم النحت ((وللعلم في الأكاديمية أربعة أقسام: الرسم والنحت والديكور (ومفهومه الزخرفة) والشأن المسرحي، وقسم الرسم به أقسام رئيسية: تاريخ الفن والتشريح والطباعة على الزنك)) بالإضافة إلى دروس كتقنية الرسم وغيرها.
وافق لي بروفيسور النحت على تنفيذ عمل صغير حتى لا أؤثر على الطلاب الرئيسيين في القسم، جلست والحماس يسبقني، أقف والفرح يشدني، أدور حول كتلة الطين وأناملي تبني وتحذف وتضيف، أختمر التكوين وهو “رأس حصان” ثم عملت له قالبًا بالجبس وتركت المجسم في الأكاديمية لحين تخرجت أحضرته معي إلى السعودية، ولله الحمد حاملًا الشهادة بتقدير امتياز، ولقد منحني الملحق التعليمي السعودي بروما مكافأة التفوق.
حين عودتي إلى الديرة منحتني الطبيعة جثة حصان وأخذت أبحث عن التشريح فيها وأستدل على هيكلة العظام التي أغرقت يداي بهذه الكتل ونبهت النحت المسكون بداخلي، مع البحث الدائم في كل تفاصيل وجزئيات هذا الكيان، بطرح البصمة والتميز في الرسم، كان عليّ أن أستخرج تلك الكتل من بصري وأناملي وعقلي، وأكونها بشيء مدرك، تبنيه أناملي وتحتضنه كيانًا وحتى لو كنت مغمض العينين، أراه محسوسًا أمامي برؤية مغايرة من جميع الجهات، أنجزت مجسمات عن الحصان مختلفة عن السائد والمألوف”.
كم هي الأشياء التي تؤرق الفنان كمال، فكل عمل فني يغوص فيه يعتبره هاجسًا مضنيًا فكريًا وعضليًا، يهب نفسه له روحًا بكل ما أوتي من قوة، يركن حلم ويطاول آخر، وفي خضم الاعتكاف والاشتغال، يتلقى بداية 2008 دعوة آتية من داخل سور الصين العظيم، لحضور أكبر تظاهرة فنية على المستوى الشرق، ويلبي النداء ويشترك في “سمبوزيوم تشانغشون” بجمهورية الصين الشعبية، يحط رحله ويلفت الأنظار لحسن معروضه الفني المغاير عن الآخر، ويحفر اسمه نقشًا بارزًا من بين النحاتين المشاركين، الأمر الذي جعل المنظمين يدعونه لثلاث دورات متعاقبة، شرف لم يتسن للنحاتين غيره والآتين من قارات العالم، دعوة لم يحظ بها سواه، وأيضًا هو الوحيد من بين الفنانين السعوديين الذي دعي لحضور هذا الملتقى العالمي، ولثقة المنظمين الصينيين بشخصيته كلفوه بإلقاء كلمة الفنانين، أثناء مشاركته الأولى، وقد تلاها أمام الحضور بالزي الوطني السعودي اعتزازًا بالانتماء لبلده، تمامًا بانعكاس أعماله المستمدة من مجد أمته الخالد، وجاءت أعماله متفردة وسط المنحوتات المنفذة خلال 50 يومًا وهو زمن الملتقى، عمل مضنٍ ودؤوب وسباق مع الزمن، وتحدٍ للنفس والقدرات، وكانت إنجازته على النحو التالي:- “حرير الخيل-2008″، و”عنتر وعبلة – 2009″، و”العاديات- 2011″، وكلها منفذة من الفايبر جلاس، والستانستيل، والبرونز، أعمال مستلهمة من التراث العربي، من عمق التاريخ، تحمل جمالية الشكل وقوة الطرح وعمق المضمون، وقد نصبت في أكبر حدائق الصين، وسط إعجاب القيمين والنحاتين المشاركين، وزوار الملتقى الذين يتسابقون لالتقاط الصور معه ويصافحون أنامله الملهمة تحية تقدير وإعجاب.
وبعد عودته المظفرة من بلد المليار وثلاثمائة نسمة، سأله الصحفي “علي سعيد”: “متى سنشاهد أعمال كمال المعلم في حدائق وشواطئ المملكة؟”، فأجاب: “هذه أمنيتي بلا شك بأن أقدم عملًا فنيًا، وهو طموحي منذ زمن، ولكن الأمر يتطلب وجود أرضية خصبة ومناخا صحيا لتقديم الفن”. كلام من فنان كبير قلبه يخفق حبًا لبلده، بأن يرى شيئًا مماثلًا لما يراه في الدول المتقدمة التي لها تقاليد عريقة بأهمية الفنون، أو حتى المستحدثة التي تسعى لإثبات ذاتها على خارطة الفن، وكم هي الرغبات التي تدور في النفوس المخلصة، وكم هي الأمنيات التي تدور في العقول المتنورة. الفن ليس ترفًا بل هو انعكاس لرقي وحضارة الأمم.
وكانت آخر مشاركة لفناننا القدير في جمهورية للصين العام المنصرم 2017 في معرض طريق الحرير الدولي بمدينة شيان، بلوحة تم اقتناؤها وتم عرضها في متحف مدينة شيان تجاور أعمال عمالقة الفن مثل بيكاسو وسلفادور دالي وإخوان ميرو، وغيرهم.
اصطفاف لوحته بجانب العظام، وانتصاب مجسمات وسط بلد المليار، إنما هو اعتزاز لأنامل ترنو دومًا لقمم الفن وألق الجمال، وهو تحية فخر مشتركة لفناننا وللفن التشكيلي السعودي عامة.
وفي هذه الليالي المباركة من شهر رمضان، خصني الفنان كمال المعلم بالكثير من ذكرياته، قص أحاديث وأحاديث ثرية وعميقة، وأدركت كم هي آماله وطموحاته العالية، وعرفت عن قرب ما يدور في خلده من رؤى وتطلعات كثيرة أنقل منها بتصرف، حيث قال:
“آخر مشاركة لي في جمهورية الصين الشعبية قبل نهاية العام الميلادي المنصرم، حيث بلغ عدد الفنانين المشاركين ١٠٦ + ١٠٦ مساعدين + ١٠٦ مترجمين = ٣١٨ شخصًا في السمبوزيوم، بالإضافة إلى المنظمين والمسؤولين، والعجيب أن كل التنظيم يسير بسلاسة وهدوء ويسر، لم أسمع من المنظمين رفع الصوت، وعند حضور المسؤولين الكبار يحضرون بكل بساطة وبلا تكلفة، أقولها بصراحة كم أنا تواق للمشاركة في الصين، أجد فيها كياني وأشعر بإنسانيتي وكرامتي كفنان، أسأل الله التوفيق للجميع.
وبالمقابل كم أنا تواق ومتفائل بأن يكون في ديرتنا الغالية تنظيم “سمبوزيومات” أو بيناليات أو معارض على مستوى عالمي، وبلا شك هناك كوادر قادرة على ذلك، ولقد ذكرت هذا الكلام عدة مرات عندما رفعت تقارير عن كل مشاركاتي الدولية إلى معالي وزير الثقافة والإعلام، وكذلك طرحت رؤية للمشاركة السعودية في أقدم وأعرق تظاهرة فنية على وجه البسيطة، وهو بينالي فينيسيا بإيطاليا لعام ٢٠١٩ إلى معالي الوزير، وقبل ذلك إلى أخي العزيز سلطان البازعي، رئيس الجمعية آنذاك، ولكن.. أسأل الله التوفيق، ومتمنيًا أن يبزغ فجر جديد”.