حين أوشك القرن العشرون على الوداع بنهاية سنينه الأخيرة، سمعنا صهيل خيل تدق بحوافرها إيقاعًا متناغمًا، على صالة رعاية الشباب بالدمام، رأيناها تتلون بين العتمة والضياء، بين سطوع الفجر والليل والبيداء، سارحة بألوان المروج النضرة، مأخوذة بنظرات الحاضرين، تجوب مهرجان محبة لعيون العاشقين، المفتونين بصلابة النحت وقوة الرسم وثراء التلوين، يأخذهم التجوال طقسًا جماليًا برؤية بصرية فاتنة، ومقطوعة شعرية موسيقية تقص علينا الحكاية، تودعنا سفرًا خارج الزمن، فرس تخرج من خباء “الكانفاس” وتمخر عباب الزوار بصهيل الآهات والوصال، وتسعى بين صالتين متجاورتين، جري وردح، وذيل يتطاير بدلال، نخطو على وقع خطواتها، ونتأملها، نتأمل حلمًا، وحلم يتأملنا.
نتأمل انبهارًا، نتأمل دهشة، دهشة من فيض، ونتجلى بتراقص حوافرها لحنًا من طلل، عيونها انعكاس لذائقة الجمهرة، حواراتنا جذلى بأنفاس الفرس، تهب فارسها مقام عرس بزغاريد فرح، تبصره حنينا بين إغماضة عينيها وانتباهتها، فهو الذي أطعمها من جوع محبة وإلفة، ورشفها ترشيفًا، وضمته صهوتها منزلة عليا منذ الصغر، حميمية استثنائية بعشق يطوي المسافات من مراتع سيهات إلى اصطبلات فلورنسا، والعودة ثانية لمرابع النشأة الأولى، لفيافي النخيل وأنهار العيون.
يدخلان المعترك (استديو التصوير) كل ينظر للآخر، أنامله تربت على عنقها وتتغزل، وتتحسس تضاريس جسدها بانحناءاته المقوسة، سكونًا متحركًا، يتفرس بخصرها النحيل، ورشاقة قوامها العربي الأصيل، ورقبة تنحني لفارسها، إمعانا لقبلات الشوق، ذوبانًا، يجسدها نحتًا ونقشًا ولونًا وخطوطًا مشكلة بحكايا التيه والترحال وقصص المغرمين، مساجلات بوح
وعدو كالسهم المنطلق، نحو فضاءات الجمال.
تتكحل حواس الزوار متعة ومسرة ويمضغون الأسئلة أجوبة من صهيل، لمعرض يعتبر علامة فارقة من بين كل العروض التشكيلية، على مستوى ساحتنا التشكيلية، معرض نوعي موسوم في ذاكرة التشكيل بعنوان “فرسي- 95م” هي فرس كمال المعلم المتنقلة بأدوار الكر والفر والإقدام والنبل والشهامة والشجاعة، تعدو بإرث التاريخ، وجلل المعارك، وغربة الليالي، وبهجة الأسفار، وغواية الأشعار، سر من رآها، وأفلح من امتطاها، بنواصيها معقود الخير.
فرس كمال بتشكيلاتها الفنية نحتًا ورسمًا ونغمًا، اصطفت مشاهدها الباهرة، عبر مضمار 29 لوحة و9 منحوتات مزخرفات بالتراث الشعبي، كانت الدمام المحطة الأولى، للانطلاقة الكبرى، تعقبتها العيون بأحداق متسعة، واستقبلتها النفوس برحابة واحتفاء، جمهور غفير متنوع يتقدمهم وكيل الحرس الوطني بالمنطقة الشرقية صاحب السمو الملكي مشاري بن سعود بن عبد العزيز، الذي افتتح المعرض مساء الأربعاء 1415/11/5 وعلامات الرضا والفخر تظلله كلما اتجه لرؤية كل عمل فني، صالتان غصت بهما فناني وأدباء المنطقة الشرقية ونخبة من فناني الرياض حضروا خصيصًا للمعرض (السليم، الرزيزاء، الخزيم)، وكذلك الشاعر طلال الرشيد، بالإضافة لفنانين من الخليج (جاسم بوحمد من الكويت) (ويوسف أحمد من قطر)، كل أدلى بدلوه في دفتر الزيارة، كلمات تترجم مشاعرهم الجياشة، وانطباعاتهم المتسربلة بألق الفرجة، وغواية اللون والنغم، كلمات حبلى بأصداء الصهيل.
معرض أثار جدلًا جماليًا وفنيًا في الأوساط التشكيلية والثقافية، وحرض المسؤولين في رعاية الشباب على الاقتداء بكتيب المعرض الفريد في نوعه ومحتواه للعمل بمثله في معارضهم القادمة. عوالم المعرض أخذت بعضًا من الحضور لمعاودته أكثر من مرة، فطوال أيامه لم ينقطع من حركة لزوار، ختمت أيامه الحافلة بجلسة حوارية لحشد من الفنانين ونقاد المنطقة، وثقتها عين المخرج عبد الخالق الغانم.
ويغادر المعرض بكامل حلته للكويت، فتستقبله قاعة “أحمد مشاري العدواني 1996/11/9″، وقد قام الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون د. سلمان العسكري بافتتاحه، وسط صفوة من المثقفين والتشكيليين، وفي مملكة البحرين وزير الإعلام د. محمد المطوع يفتتحه عام 1998م بحضور كتاب وفنانين وصحفيين، ويحط رحله في إمارة الشارقة ويرعى افتتاحه نائب الشيخ سلطان القاسمي، ومن مياه الخليج الدافئة إلى ضفاف عروس البحر الأحمر كان مسك الختام، أربع سنوات لهذا التطواف الملهم فنيًا والمحرض ثقافيًا، أقيم المعرض في مدينة جدة حيث افتتح على شرف صاحبة السمو الأميرة جواهر بنت ماجد بن عبد العزيز، وتم اقتناء المعرض من قبل سموها، وأيضًا من قبل ممثلة إمارة مكة المكرمة السيدة جواهر بنت هشام ناظر، واحتفلت كل صحافة الغربية بتغطيات متفردة ومميزة، وحظي بكثافة جماهيرية متفاعلة، أسبغته تحايا من فرح وإعجابًا من بهجة، في كل محطة توافدت اللهفة وتواجد النقد والجدل، ودارت رحى الإشارات والإيماءات والاقتباسات، طآئفة من عبارات الإطراء والإعجاب من لدن مسؤولين، سفراء ووزراء ثقافة وإعلام، وصفوة مثقفة ونخب فنية متنوعة.
معرض حقق شهرة واسعة بين الخاصة والعامة، ولقي حضورًا فنيًا مكثفًا ولافتًا على كل المستويات، وتم شراء أغلب الأعمال، إذ وصلت مبيعات المعرض إلى ما على يربو النصف مليون ريال. إنه معرض الحلم، حلم الفنان، حلم مرايا السنين، حلم جموح فرس، حلم مجنح طاف بالأمكنة، وهامت به العيون، أسر الذائقة، وسكن الذاكرة، لم يزل ضوءه بازغًا في نفوس من حضره. لقد خاطته الأيام بخيوط من سفر وصبر وسهر، فمنذ تخرج الفنان عام 82 ولغاية لحظة انطلاقته 95م، وهو في اشتغال دائم وتجريب مستنفر، وكم تأجل افتتاحه مرات ومرات بسبب قلق الفنان وهواجسه البحثية عن الصيغ الأفضل والإخراج الأحسن والاقتراب من الأكمل، ديدنه البحث عن الإتقان، لا يرضيه أن يطرح للملأ أي معرض عابر وينسى في اليوم التالي!
بمقدار ما هو مشروع متكامل، معرض لا ينسى، يظل محفورًا على جدار الزمن، وممهورًا في سجل تاريخ التشكيل، فهو ممتلئ بعروج الفن من أوجه عدة، فقد تقاطعت فنون في متنه ومحتواه وشكله ومظهره، النحت والرسم والشعر، والموسيقى والغناء، فضاء متنوع عنونه الفنان في مفردة واحدة “فرسي”، محمل بلوحات ذات أحجام كبيرة، تجاورها بعض أعمال السلسلة وهي عبارة عن ثلاث لوحات تحكي مشهدًا معينًا بإيقاع حركي متتابع، وقليل من اللوحات متوسطات الحجم، في كل لوحة نسمع صهيل خيل، أو وقع حوافر، أعمال لا تعرف السكون ولا مهادنة الصمت، جموح مستفز للجمال، حركة ولونًا وشكلًا ومضمونًا، ضمهم كتيب فخم تتوزع عليه الأعمال بطريقة جاذبة ومبتكرة حيث بعض الصفحات تتثنى على بعضها ثلاثًا، بالإضافة للغلاف الخارجي وما يخفيه ظهره الداخلي المحجوب بطي ربع من الصفحة على بعضها تمثل صورًا فوتوغرافية (أسود وأبيض) للفنان نفسه، فالواجهة الأولى للغلاف، الفنان يقتلع بعضًا من الزخارف الجبسية من بيوت سيهات القديمة، والواجهة الثانية للغلاف صورة جريئة وغير مسبوقة وهي من مفاجآت الكتيب غير المتوقعة، صورة أيضًا بالأبيض والأسود للفنان يشرح جثة طرية لحصان ملقى أرضًا يغوص بكلتا بيديه في أحشائه كأنه جراح يتزود لمعرفة التركيبة الداخلية للأعضاء الخفية، وربما لفك طلاسم هذا المخلوق المعجز (جل من سواه)، ومعرفة السر وراء سرعته متأملًا أربطته وأوتاره وعضلاته ! وأخذ بعضًا من العظام والجمجمة لذلك الحصان ونفذها بالأحبار الملونة، كأنها أيقونات لنصب جمالية، بالإضافة للكم الهائل من البوسترات لبعض الأعمال، وزعت على الزائرين، ومما أعطى المعرض بعدًا آخر جمالية المنحوتات المتفرقة والمنفذة بخامات متعددة كل منحوتة لها رونقها ونكهتها الخاصة شكلًا ومضمونًا، يتوسطهما عمل مفاهيمي بعنوان “الولادة”- جنين مكتمل (مهر) ملفوف بأغشيته الشفافة معلق بقواطع من سكة بناء، وعن هذا العمل تحديدًا يسجل به الفنان الأسبقية لكل الأعمال المفاهيمية السعودية كافة، وتم استنساخ هذا العمل بشيء من التحوير من إحداهن؟
الزائر لمعرض “فرسي” يتأمل ويستمع لشريط غنائي يصدح في أجواء المكان، عمل موسيقي مصاحب للمعرض بلحن علي أبازيد وبتوزيع موسيقي خالد إبراهيم وعزف كمان محمد الجشي وإلقاء علي عسيري وأداء حسين قريش وسلمان زيمان، ينشدان خاطرة شعرية من قريحة الفنان كمال: “فرسي: تجردي من السرج واللجام، فالأحرار ترفض الأكفان، والسباق لم يزل طويلًا، ولي همسة في إيقاع حوافرك، دعينا نتقاسم اللغة، تحت ظل اللون، تتحدثين فاسمع، تمسكين الدفة فأفرح، مثقل أنا بإحساسي، يتيم في كفني، فكيف ننعي جوادًا لم يكمل المشوار، وأنتِ معي .. ماذا تقولين، هل نكمل المشوار؟”، كلمات تعكس ما بدواخل الفنان من رؤى دفينة ومشاعر عميقة وأحاسيس فيض يكشفها ذلك البوح الشفيف.
معرض “فرسي” لوحة سمعية بصرية متنوعة “كمًا ونوعًا” ومكثف فنيًا بطرح غير مسبوق من قبل، وعلامة فارقة في سجل المعارض التشكيلية (الشخصية) على مستوى المملكة لحد الآن.
ومن جوانب هذا المعرض أنه نبهنا لقيمة زخارفنا الشعبية الجصية، المترامية في بيوتنا الطينية، فراح يستلها الفنان من الجدران العتيقة قبل الهدم وقبل أن تتوارى عن الأنظار رمادًا، فأخذ تلك التشكيلات المحفورة هندسة وإبداعًا، وأدخلها في الكثير من أعماله كتلة خام واستلهم بعضًا من موتيفاتها الزخرفية رسمًا وتلوينًا، الأمر الذي سار على نهجه آخرون من بعده، صهيل خيله يقول بأنهم لا يجرؤون على ذكر ذلك؟!
المعرض قبس من جنون، جنون عشق وهيام وغرام، جنون فن وإبداع.