الفنان: كمال المعلم
منذ صباه انجذب للخط قبل الرسم، بإغراءات عناوين الكتب المدرسية والمجلات الدورية يشفها تقليدًا، ويتوه تأملًا كلما وقعت عيناه على أي لوحة خطية، يستجيب لها تقليدًا بالطباشير وقطع الفحم، أسود وأبيض، يمتزجان حروفًا وكلمات تتبختر على تضاريس الجدران العتيقة، يبللها المطر، وتسيح أرضًا فتختلط مع تراب الأرض العطشى لماء الكلمات، فتنبت سنابل لا تراها كل العيون، الطامحون وحدهم يرونها حصادًا.
أنامله تزرع سطوح الأوراق خطوطًا بالديواني والفارسي، وحزمة أقلام بهتت ألوانها وتكسرت رؤوسها من كثرة الحرث، رائحة الفلوماستر الندية وألوانها النفاذة يحيلها سطورًا للرقعة والنسخ، على (الكرتونات)، ووسائل الإيضاح تشر عن خطه المتأنق على جدران الفصول والردهات، إعجاب طلاب، وثناء مقربين وإشادة مدرسين، تكسبه دعمًا وتشجيعًا، الخافق ينتشي فرحًا، بهرته اللوحات الدعائية للخطاط الفلسطيني (رجب) على واجهات المحلات التجارية في شوارع سيهات والدمام والقطيف، محاكاته ترسم الخطوط رسمًا وبحجوم أكبر على الألواح الخشبية بفرشاة غليظة و(علب أصباغ)، محاولاته تتنامى نموًا وطموحًا بتجاوز حدود إعجاب الآخرين، وثقة متعاظمة أبعد من حدود الهواية أو تمضية وقت الفراغ، يمد ذراع قدرته الخطية كحرفة تماهيًا مع البارعين بنظرة استثمارية، فأعلن عن نفسه للناس بكتابة على جدران بيوت الطين مفادها “اقصدوا الخطاط كمال بجوار مسجد السوق”، فرد على هذه الجملة أشهر وأول خطاط في ديرته سيهات بكلمة خطية “ما يعرف” مع خربشة الإعلان!؟ كلمة تحبيطية لم يكترث لها ولم يدر لها بالًا، وخربشة حرضته بعزم لا يلين، وبإقدام لا يستكين، كلمة زادته اشتعالًا، أنامله تسارع الخطى حثيثًا تلبية لرغبات شباب الحارات بخط حكم وآيات على دراجاتهم النارية، يتزاحمون انتظارًا لدورهم المرتقب عند عتبات باب (بيت المعلم)، بجوار المسجد الذي بناه جده (أحمد) وسط السوق، منزل أصبح أيضًا مقصد أصحاب الدكاكين الذي يسعون للظفر بخطوطه المزينة رسمًا، وفي خضم الطلبات وضع نصب عينيه مقولة الإمام علي (ع):
“عليكم بحسن الخط، فإنه من مفاتيح الرزق”، نصيحة عمل بها وهو يسلم على مرقده الشريف في النجف عام 1973م، ويتجه نحو الكاظمية ببغداد وتقع عيناه على كراس لتعلم الخط العربي بقلم الخطاط الكبير (هاشم البغدادي)، يتصفحه انبهارًا وكأنه عثر على كنز، راح ينهل منه تدريبًا يوميًا بجلد وصبر، واتخذه معينًا لتقويم مهاراته، بجانب رسم بعض مناظر من وحي البيئة، وعن شغفه بالخط والفن استدرجت ذاكرته لنثر جميل الذكريات اقتنص بعضًا منها بتصرف:
“في المرحلة الابتدائية شعرت أن يدي تستقر على تجويد الخطوط وفي نفس الوقت، أذني تصغي للنغم الراقي والألحان الأصيلة، في خط متوازٍ مع بحثي لقواعد الخط العربي.. إن الخطاطين رجب وحسن عيد – رحمهما الله – أعجبت بهما والأول أكثر، والأهم اقتناء كراسة الخطاط هاشم محمد البغدادي، شتريتها من الكاظمية بالتزامن مع إعلان خبر وفاته في لندن، كانت مفتاح الشغف بالخط العربي كنت أحاكي قواعد الخط يوميًا دون أن أحظى بأي توجيه من أي مدرس حتى (رجب وحسن) لم يكن خطهما مبنيًا على القواعد الكلاسيكية بالنقاط، لكن كان لكل منهما أسلوبه في تناول أنواع الخطوط”.
الخطاط رجب محمود نجم ربما يكون تأثيره أكبر لأنه الأسبق وله حضور وشهرة أكثر، وكان لحضوره إلى المشتل الزراعي الذي يملكه أخي الأكبر عبدالوهاب كي يخط على سياراته (مشتل سيهات) والتي كانت تعمل داخل شركة أرامكو ، فقد توليت خط باقي السيارات عنه فيما بعد، وكان لها أثرها الإيجابي وسعادتي التي منحتني الثقة والاستمرار.
نعم كنت شغوفًا بالخط في بداية مسيرتي الفنية ولكن للأسف لم أتعلمه على يد أساتذة وأحصل على إجازة خطاط، بل كنت أعلم نفسي بنفسي من خلال محاكاة أنواع الخطوط من كراسة الخطاط هاشم البغدادي.
أتذكر كنت أخط على الدراجات آيات قرآنية ومقاطع من الأغاني وأنفذ لوحات خطية للمحلات التجارية، مقابل مبلغ من المال، وكان ذلك في منزلنا في سيهات ثم فتحت دكانًا باسمي “محل كمال للخط” في وسط الدمام ابتداء من عام 1971م، وكنت أزاول فيه العمل فقط في العطل الصيفية واستمر بضع سنين.
وأتذكر كذلك إبان زيارة الملك فيصل للمنطقة أنه كلفني أعيان سيهات بخط بوابة بعبارات ترحيبية للملك وقد وضعت عند مدخل سيهات بمحاذاة منجرة تركي الباشا – يرحمه الله – ولقد أشاد بخط البوابة الخطاط (رجب محمود نجم) في إحدى زياراتي لمحله في حي العدامة، بعد هذه الفترة أخذت بذرة الفن منحى آخر وهو الرسم الرديف والشقيق للخط وكان ما كان…
ومن خلال تجربتي كنت أرسم الخط ولا أخطه حيث امتلك القدرة بأن أمسك قلمًا واحدًا وأخط أي عبارة بحجم كبير جدًا دون أن أفقد قواعد الخط وهذا يصعب على أغلب الخطاطين حيث لابد أن يمسك الخطاط بقلمين موازيين حتى يخط بحجم أكبر.. وأتذكر أنني خططت لوحة كبيرة جدًا تقريبًا طولها خمسة عشر مترًا من كلمتين “منجرة المعلم بخط الفارسي – للأسف احترقت المنجرة”، وحادثني الخطاط مكي الناصر خطاط قافلة الزيت آنذاك وقال لي مستغربًا: كيف خططتها؟ فأجبته: ربما شغفي للخط وراء ذلك.
وأحب أن أشيد بمكانة الخطاطين الموجودين على الساحة حاليًا بأنهم أكثر حظ من الذين سبقوهم، ولا شك أن لديهم مقدرة وقدرة فائقة على صياغة الخط بقواعده السليمة.. ولهم مني كل الاحترام والتقدير.
وعند منتصف السبعينيات اعترف به من استفزه بالأمس بجملة “لا يعرف”؛ وهو الخطاط القدير المرحوم حسن عيد، الذي كان مقصده أن يكون كمال على دراية بأصول وقواعد الخط معرفة صحيحة وأن يكتسب خبرة تؤهله لأن يقال عنه خطاط، بكل ما في الكلمة من معنى، فقد كانت نواياه طيبة حيث قدم النصائح إلى إخوان كمال لكي يبلغوه بذلك.. أفلح القصد محله، وقدره تقديرًا عاليًا، ومن حسن الصدف يتجاورا دكانيهما للخط والإعلان بجوار بعضهما وسط سوق الدمام، فأخذا يتنافسان ويتعاونان ويتبادلان الآراء خطًا وفنًا، برغم فارق العمر بينهما، إلا أن كمال يتميز بخاصية الرسم عن قرينه فقد اشترك في أول معرض جماعي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن سنة 1974م ،بمشاركة فنانين سعوديين ومقيمين وأغلبهم من الهواة، ثم مثل المملكة في المهرجان العربي بليبيا سنة 1975م، لذا يعتبر كمال من رواد الفن في المملكة المتأخرين أو يصنف بالجيل الثاني، وهو من أوائل المشاركين في بدايات انطلاقة معارض المنطقة الشرقية، عبر معارض رعاية الشباب منذ منتصف السبعينيات، وكاتب السطور ذات مساء كان يرافق زميله الفنان عبدالله علي حسين لزيارة معرض نادي الخليج الأول في مبناه القديم عام 1978م، ومن ضمن اللوحات التي لفتتنا لوحة “صرخةانتظار” ممهورة باسم كمال المعلم، وسألنا الفنان علي هويدي مشرف المعرض عنه، قال بأن الفنان سافر منذ عام لدراسة الفن في الخارج.
موهبة الفن عند كمال لم تكن وسيلة شهرة عابرة أو مكانة إعلامية زائفة، بل غاية يمتلكها بمهارة وخبرة وعلم ودراية، وفي سبيل هذا الطموح كافح باستماتة للارتحال بعيدًا في سبيل دراسة الفن على أصوله وأسسه الأكاديمية من معاقل أهل الاختصاص، صارع الظرف ولم ييأس أمام العقبات، وقابل المسؤولين عن شؤون البعثات وكان له ما أراد فيما بعد، مدفوعًا في البدء بدعم من إخوانه الكرماء الذين شجعوه معنويًا وأمدوه ماديًا، ووصل للمدينة التي حلم بها طويلًا موطن عمالقة الفن “بوتشللي، ودافنشي، ومايكل أنجلو”، وبعد السنة الأولى من الدراسة ونظرًا لتفوقه ضم بعد معاناة على حساب الدولة، قضى حياة علمية فنية في رحاب أكاديمية الفنون في إيطاليا (فلورنسا) هذه المدينة مركز انبثاق عصر النهضة، مدينة المتاحف والتماثيل والجداريات والكنائس والأديرة وأروقة الفنون والمعمار والآثار التي تحكي الحضارة في أجلى معانيها، كل شيء فيها يحفز على التعلم والاكتساب،وبين البيئة الفلورنسية الغنية والأكاديمية العريقة كل شيء يغذيه بالمعرفة والفن، دراسة صقلته وأعادت صياغة مفاهيمه الفنية، وتتلمذ على يد البروفيسور الفنان والأكاديمي (قوفردو تروفاللي)، وفي خضم الدراسة استرسل في الأحلام طولًا وعرضًا وأطلق العنان لمخيلته للمقبل من الأيام لمشاريع مؤجلة.
تخرج سنة 1982 ميلادية بتقدير امتياز وعاد إلى حضن الوطن، ويتقلد منصب رئاسة قسم الفنون التشكيلية في رعاية الشباب (الدمام والرياض) ثم رئيسًا ثقافيًا لفرع المنطقة الشرقية، عمل خلالها بكل مكتسباته وذخيرته الفنية وخبرته في دفع عجلة حراك الوسط التشكيلي في المنطقة وخارجها بفعاليات كبرى، معارض متنوعة لرواد وناشئة، وأخرى منتقاة، بالإضافة للمعرض الجماعي السنوي لفناني المنطقة، وبث نهضة فنية وثقافية مشهود لها، بل آثر على نفسه من أجل الفنانين الآخرين، خدمة لإخوانه وأخواته وزملائه، ويعتبر كل ما قام به من حراك وسام شرف على صدره، يعتز به في كل مقابلاته.
عبدالعظيم شلي