قائمة الانتظار

في أحد الاحتفالات العامة قابلتها وهي تسير في دوامة أفكارها التي تتلاعب بمشاعرها، تستعجل الوقت، نظراتها مشتتة وشعورها مبهم، وخطوتها حائرة في درب المجهول. اقتربت منها بهدوء وابتسمت لها وصافحتها بحرارة قائلةً: “مرحبا أمل، لنا زمن لم نلتق”.

وبادلتني بابتسامة مداراة يسكن خلفها مزيج من المشاعر المختلطة، فطلبت منها أن نجلس قليلًا بالخارج لنتبادل أطراف الحديث وأنا أتحسس مشاعر الحزن مرسومة بملامح وجهها، فداعبتها مداعبة الأصدقاء قائلة لها: “عزيزتي أمل كنتِ سحابة ظريفة تنشري بيننا الضحكات بحكاياكِ اللطيفة، أيتها الفتاة المشاكسة، هل المنصب جعلكِ رزينة، أراكِ على غير طبيعتك، وكأن سؤالي قد فتح الباب أمامها، ففاجأتني بجوابها: “مازالت يا ليلى على قائمة الانتظار، فماذا تتوقعين مني؟؟! جمدت عيناي على فمها وهي تتكلم فقلت: “أي انتظار؟!”، رمقتني بعينها ففهمت ما ترمي إليه.

وصوت أنفاسها يتعالى، وأكملت حديثي وكأني لم أفهم: “لقد تخرجنا وكنتِ من أوائل من توظف من الخريجات، ثم تم قبولك ببعثة لخارج البلاد لمواصلة مسيرتك التعليمية، وقد حصلتِ اليوم على منصب إداري عالٍ ومكانة اجتماعية، فأي انتظار تتحدثين عنه؟؟”.

جالت الدموع في عينها وقالت: “ليتني كنت كزميلتنا سلمى شخصية انطوائية، تلك الفتاة الخجولة أصبحت أمًا ولديها عائلة وتسكن بمنزل جميل، أما أنا فلا أساوي شيئًا؟”.

بادرتها قبل أن تكمل حديثها قائلة لها: “أنتِ فتاة رائعة على مستوى من الأخلاق والجمال، ومن عائلة كريمة وميسورة الحال، وقد منَّ الله عليكِ بالوظيفة والصحة والمال والمركز العال، وجب عليكِ السجود شكرًا لله”.

قالت بصوت حاد: “هل تعرفين معنى أن تكوني عانس في هذا المجتمع!!”، فارتفعت نبرة صوتي قائلة: “أمل أنا لا أحب هذا اللفظ ولا أسلوبك الغريب في الحديث”.

قالت أمل: حسنا سأتحدث كما تشائين، بوضوح وشفافية واستخدام عبارات راقية، أنا لم أتزوج للآن ،لأَنِّي أقل من أي فتاة في هذه الحياة، حيث لم يطرق باب بيتنا رجل واحد، فالحياة بالنسبة لي انتهت”.

توقفت للحظة ثم وجهت لها عاصفة من الأسئلة لاستثارتها:
وهل كل فتاة لم تتزوج انتهت الحياة بالنسبة لها؟
هل محور حياة الفتاة هو الزواج؟
هل كل فتاة متزوجة سعيدة بحياتها؟
هل كل فتاة لم تتزوج بها عيب لا سمح الله؟
هل التأخر بالزوج يمنعها من التمتع بنعم الله؟

وأكملت: “ألهذا السبب خلقكِ الله؟! ألم يميزك المولى بالكرامة والقداسة وخلقك للطاعة والعبادة؟”.

استجمعت قواها وقالت: أشعر بمرارة لا تعرفينها يا عزيزتي”.

امسكت بيدها كي تشعر بقليل من الاحتواء وهمست بنبرة حانية: “إن تأخر سن الزواج لبعض الفتيات في مجتمعنا مشكلة عامة وليست مشكلة خاصة بكِ”.

فردت بغضب: “لا ترددي ما يكتب بالصحف والمجلات، كل ما يكتب لا يخرج من الإطار النظري، يعرضون المشكلة كدراسة بالإحصائيات، ومشكلتنا تتحول فقط إلى عالم الأرقام لتدل على وجود ظاهرة تهدد المجتمعات”.

قلت بلهفة: “أليس لكِ من اسمك نصيب؟! ضعي الأمل بالله نصب عينيكِ”.

فتحت هاتفها النقال بعجالة وقالت: “انظري لهذا المخطط، هذا لدراسة أجريت في مركز الملك سلمان الاجتماعي بالرياض على مستوى نطاق الخليج، والنتائج توضح أن نسبة هذه المشكلة تزداد عامًا بعد عام في دول الخليج، فكيف ستحل؟؟”.

حينها قرأت على ملامحها ما كان يعتلج بصدرها من مشاعر متأججة فقلت: “هل قابلتِ يومًا ما شخصًا أصيب بالسرطان؟”.

تفاجأت من السؤال وردت في الحال: “نعم زوجة خالي أصيبت بسرطان الرحم، وكذلك ابن عمي مصاب بسرطان الغدد”.

فقلت: “وهل قابلت شخصًا معاقًا أو شخصًا كفيف البصر؟”.

نظرت للسماء وقالت: “ماذا تقصدين من وراء السؤال؟”.

فقلت: “أجيبي عن السؤال: هل هؤلاء أموات أم أحياء؟ هم جزء من نسيج مجتمعنا، ولهم دور بالحياة لا يقل عن دور من تقلد المناصب وأسس الشركات، رغم ما كتب المولى لهم من الأقدار، إلا أنهم يمثلون أروع القصص للكفاح وتغيير المجتمعات”.

أطرقت برأسها للأرض وهي تفكر فقلت لها: “كل ما يكتبه الله لنا من الأقدار جميل، علينا أن نتقبل ذواتنا ونقنع بأرزاقنا، غاليتي؛ غيري زوايا فكرك وافتحي الآفاق وتحسسي نعم الرحمن لك، وابدئي التغيير من الداخل لتتغير حياتك، لا تكوني حبيسة الأفكار المظلمة”.

ردت بصوتها المبحوح وبنبرة مختلفة: “أنا لست ملاكًا يا ليلى، أنا إنسان لي حاجات ورغبات”.

فتأملت في عينيها وقد لمع بهما بريق الأمل قائلة لها: “أنتِ أقوى من الملاك، فقد فضل الله المؤمنين على الملائكة بدرجات، أنتِ الأقوى، إذا ملكتِ القدرة على السيطرة على رغباتك وشهواتك، وكما تسعين للنجاح في حياتك العملية والتغلب على العقبات، كذلك اسعِ لكي ترقي بنفسك للنفس المطمئنة بما كتب الله”.

فأجابت: “وإن آمنت بما تقولين، فمن سينقذني من مستنقع نظرة الشفقة في عين أمي وأبي وإخوتي؟”.

ابتسمت وقلت لها: “هذا دورك يا بطلة، عليكِ أن تتحاوري معهم حول وضعك الحالي، وتبادري بتغيير المفاهيم الخاطئة، فليس عيبًا أو حرامًا أن تبقى الفتاة بلا زواج إنما هي أقدار وأرزاق مكتوبة من قبل الله، وإذا كان لديهم القدرة على تغيير الأقدار فليغيروا أقدارهم”.

هزت رأسها وقالت: “ومن سيغير نظرة مجتمعي، أنا لا أطيق همسات أفراد المجتمع تجاهي!”.

جاوبتها: “أنتِ نقطة التغيير، غيري قناعاتك وقناعة من حولك، وكما تطرحين دورات لتطوير الموظفات في المؤسسة التي تعملين بها، اطرحي رسالة للمجتمع وخاطبي الآباء والأمهات بطلب تربية الفتاة كي تكون قوية وصلبة الإرادة تحمل قيمًا ثابتة، فهي عمود رقي المجتمع، وازرعي في نفس كل فتاة أنها خُلقت من أجل تعمير الأرض والعمل لرضى الإله، ولم تخلق من أجل أن تنتظر فارس الأحلام، أما قائمة الانتظار، فلابد أن تمزق يا أمل وتنثر أوراقها في مهب الرياح لأنها تحبسك بعالم الأوهام، ذلك العالم مغروس بعقلك الباطن حيث يمنعك من التعايش والاستمتاع بنعم الحياة”.

هنا سكتت أمل وقد حل عليها الهدوء والسكينة وكأنها لا تعرف ما تقول، ثم قالت: “أشعر بضوء ينفذ بداخلي، يشعرني بالراحة، كأنه عنفوان يحرك مشاعري سأتمسك به”.

فعانقتها ونبضات قلبها الدافئة ملأت عروقي بهجة، وقد علا محياها ابتسامة الرضا، وتمتمت قائلة: “ربما سأغير تفكيري، وأسعى لتشكيل لجنة لحماية الفتيات من خطر هذا الفكر اللاواعي”.

ودعتني أمل برعاية الله وأنا أترقب خطواتها في زخم تلك المناورات، وحولها هالة ممتدة لا قدرة لي على عنونتها بعنوان ولا تذييلها بوقت، غير أنها ولادة أمل جديد.. ينبض بالحكاية.


error: المحتوي محمي