إغواء الشيطان: “وَلا تَجْعَلْ لِلشَّيْطانِ فيهِ عَلَيَّ سَبيلاً…”:
يدور الحديث حول الدور الحقيقي للشيطان الرجيم في انحراف الإنسان عن جادة الحق والصواب وارتكاب السيئات، فهل هو دور القهر والإجبار على مسار الخطايا، أم أنه دور التزيين والإغراء للممارسات القبيحة فما يزال به حتى يرتكبها؟
سبيل الشيطان على الإنسان الوسوسة وتهييج النفس نحو المعصية، ويبقى رد فعل المرء واستجابته متوقفًا على ما يمتلكه من حصانة الورع من عدمها.
والمهم هو كيفية مواجهة تسويل وخطوات وطرق الشيطان الرجيم؛ تفاديًا للوقوع في المعصية وارتكابها وأهمها الاعتراف بالخطيئة، فإن إحدى خطوات الشيطان الرجيم ليوسوس بها في قلب العبد ودعوته لارتكاب الذنوب هو عدم الاعتراف بصدور المعصية أصلًا، بل يأخذ في أسلوب التبرير وخلق الأعذار، بل ويحاول أن يجد لها مبررات ومسوغات ترفع عنه التوبيخ واللوم، وفي النهاية تصب لمصلحته ولا تنسب له ارتكاب الخطأ، فإذا اغتاب أحدًا من الناس أو بحث في عثراته، أخذ في البحث عن مسوغ شيطاني يجنّبه الاعتراف بارتكابه المعصية، فيقول مثلًا: هذا الشخص الكل يعرف عنه ذلك، أو أردت أن أحذّر المؤمنين منه، وغيرها من التخرصات والطرق الملتوية والتي لا تقوده أبدًا نحو تصحيح سلوكه وتصرفاته المشينة.
المراجعة والحساب يستتبعه الراحة النفسية والتخلص من الإحساس بارتكاب الإساءة في حق من أنعم عليه، وتبدأ هذه المراجعة الذاتية لما كان من أقواله وأفعاله وما اقترفت جوارحه من مخالفات، ويكمل برنامج المحاسبة والمراجعة فينظر إلى مستقبل الأيام وما هو فاعل فيها، فإن ساعات أجله معدودة عليه ولن يخلد أبد الآبدين، فإن له أجلًا مسمى ما إن ينتهي حتى يرحل دون سابق إنذار، فبامتلاكه للعزيمة الصادقة والقوية يستطيع أن يلتزم جادة الاستقامة والطاعة وتجنب الخطايا.
وهذه المراجعة ما هي إلا إعداد وبرمجة لعدم الوقوع في نفس الخطيئة مستقبلًا، فتقوى النفس في طريق رفض النزوات المحرمة، ومتى ما كان الإنسان واثقًا من نفسه في امتلاك أدوات التعامل مع ارتكاب الخطأ وكيفية تصحيح ذلك الواقع، استطاع أن يشكل في نفسه جبهة داخلية قوية تستطيع أن تقاوم إغراءات وتزيين الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء.
ومن وسائل مقاومة تسلط الشيطان الإحساس بالندم لارتكاب الذنب، فليس بمستغرب لمن عرف طبيعة النفس البشرية التي تضعف مقاومتها أمام الإغراءات الدنيوية أن يسقط المرء في المعصية، وهناك اختلاف بين العباد من جهة الاعتراف والإقرار بالذنب من عدمه، واختلاف من جهة كيفية التعامل مع الإحساس بارتكاب الذنب، فلا شك أن اقتراف السيئة له آثار على نفسية الفرد، فكل سلوك يصدر منه سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا لا بد أن يراه ماثلًا في تصرفاته فينعكس حسنًا أو قبحًا، والإحساس بالإساءة لمن أنعم عليه يؤرقه ويجعله حبيس الأحزان، فالمعصية ليست بالحدث العابر أو صورة هامشية لا انطباع لها على النفس، بل المعصية تتولد نتيجة تفكير معين قد جعله ينجر خلف الشهوة دون أن ينظر إلى عواقب فعله، وينطبع ذلك التجري والمخالفة على شكل صورة منقوشة لا تفارقه، فإذا لم يمسحها من مخيلته بتجنب حدوثها مجددًا فإن ذلك سيقوده إلى الاستئناس بفعل الحرام، كما أن مناعته أمام ترائي المعصية أمام عينيه سيدعوه إلى تكرارها دون وجود مانع قوي يردعه، ولا يمكن محو هذه الصورة إلا بالتوبة والإقلاع عن المعصية، فتغدو تلك الأوقات التي يتذكر فيها وقوعه في وحل المخالفة ساعة ندم وحسرة وخوف من الله تعالى، وتؤثر هذه الصورة لفعل السيئات على سلوكيات الإنسان وأقواله وتصرفاته، فقد ينحدر إلى عالم المخالفة فيشغله الشيطان بالتنقل ما بين أطراف مساحة المعاصي وتمحوراتها، فيغدو أسيرًا للشهوات و مكبلًا بسلاسل الذنوب فيصعب عليه أن يتخلص منها إن لم يكن صاحب إرادة قوية، وفي المقابل فإن توبته تنهي ذلك السواد في قلبه وتتجلى الطهارة والنقاء مرة أخرى، وتنبعث فيه إرادة وعزم قوي نحو الفضيلة.
فالنفس إن اعتادت على السلوك الخاطئ وتربت عليه، تحول ذلك السلوك إلى عادة تترسخ فيها ويصعب بعد ذلك اجتثاثها، ويرتاضها ويهدئ من مسيرها المتزن التخلق بالتعامل الأخلاقي الرفيع والقائم على احترام النفس والغير.
ومن الحقائق المهمة هي أن كل سلوك ومنحى تفكيري يبرزه المرء، هناك دافع ومحرك نفسي له سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، فالصدق مثلًا خلق رفيع يتميز به الواثق من نفسه، ويسعى لإقامة علاقات متينة لا يخدشها الخداع أو التلون والمشاعر المنافقة، وفي المقابل فإن الحسد مثلًا يصدر ممن يمتلك مشاعر سلبية تجاه الغير، ولا يرى لنفسه وجودًا مريحًا ومتفردًا مع تنعم الآخر وهنائه!