أشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
إذا حل بواديكا
كما أضحكك الدهر
كذاك الموت يبكيكا
السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أبا الأيتام، السلام عليك يا وصي الله، السلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيًا، السلام عليك يا أبا الحسن، وعلى شيبك المخصب بدم رأسكَ الشريف.
نادى جبرائيل بين السماء والأرض: تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى.. قتل سيد الأوصياء.. قتله أشقى الأشقياء.
الحديث عن الإمام علي (عليه السلام) في ذكرى استشهاده هو حديث يدمي القلب ويؤرّق الجفون لأمة تنحر أمامها بمحراب الصلاة وتهدم أحد أركان الهدى وتطفئ بذلك نور الله ورسالته الإسلامية.
الإمام علي نموذج الإنسانية الراقية والمثل الأعلى لتصعيده وشموخه فالإمام حقيقة راهنة تخلد خلود الحياة.
وعندما نبحر في عمق التاريخ الإنساني الطويل لم نجد بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين) رجلًا كالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحمل من الصفات والفضائل والمناقب والمحاسن الأخلاقية والإنسانية منذ أن آمن بالرسالة النبوية وافتدى بنفسه الرسول الأعظم، وهو أول من نصر الإسلام بسيفه عندما برز في
معركة الخندق لعمرو بن ود العامري التي تعادل عبادة الثقلين عندما ضمن الرسول (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين) للإمام علي الجنة.
فليس من قبيل الصدفة، مطلقاً، أن ينشق الجدار الخلفي لبيت الله الحرام؛ الكعبة المشرفة للسيدة «فاطمة بنت أسد» حليلة مؤمن قريش «أبي طالب»، لتدخل وتضع وليدها البكر؛ عليًا (عليه السلام).
وليس من قبيل الصدفة، أيضًا، أن يُستشهد هذا الإمام العظيم في بيت من بيوت الله ألا وهو مسجد الكوفة بسيف الغدر والإرهاب الذي أنزله على هامته الشريفة «عبد الرحمن بن ملجم المرادي» لعنه الله.
وبين الكعبة المشرفة حيث ولد الإمام (عليه السلام)، وبين مسجد الكوفة؛ حيث استُشهد، فترة زمنية تمتد لـ(63) عامًا، وهذه الفترة قصيرة جدًا لمن يريد أن يبني آخرته، وحتى لمن يريد أن يبني دنياه؛ ولكن حياة الإمام (عليه السلام) تلك كانت من نوع آخر تمامًا، إنها كانت حياة مباركة وأية بركة؛ فساعاتها كانت ببركة الأيام، والأيام كانت ببركة الشهور، والشهور كانت ببركة السنين، والسنون كانت ببركة القرون، والقرون كانت ببركة الدهور.
«علي مع الحق والحق مع علي»، وكم هي بركة هذه المعادلة؟ أليست قرونًا؟!
و«ضربة علي في يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»، وعلي (عليه السلام) هو «الصراط المستقيم والنبأ العظيم»، وكم هي بركة هذا الصراط وهذا النبأ؟! وقائمة فضائله تبدأ ولا تنتهي.
ثم إن العالم كله يحتاج إلى حُكم الإمام علي (عليه السلام) وعدله، وقضائه، واقتصاده، واجتماعه، وتربيته، وسلمه، وفقهه، وفكره، وأخلاقه؛ لأنها – بالضبط وبالدقة – حُكم القرآن الكريم، وعدله، وقضاؤه، واقتصاده، واجتماعه، وتربيته، وسلمه، وفقهه، وفكره، وأخلاقه؛ لأنه (عليه السلام) هو القرآن الناطق بصريح العبارة ومختصرها؛ فأية بركة لعمره الشريف؛ إذن؟!
الإمام علي (عليه السلام) وفي مسجد الكوفة ذاته خطب قائلًا: «سلوني قبل أن تفقدوني؛ سلوني عن طرق السماوات، فإني أعلم بها من طرق الأرض».
حياة أمير المؤمنين:
إن العظماء من لم يعظموا الدنيا وهذا هو النادر في الحقيقة، فكان أن حظي العالم بشخصية لم ير لها نظير أبدًا، في طلاق الدنيا بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلا وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
لقد شكّلت حياة أمير المؤمنين عليه السلام النموذج الإسلاميّ الكامل والسراج المنير لكلّ من يبحث عن الله وعن صراطه المستقيم، وكيف لا يكون الإمام علي (عليه السلام) نبراسًا للإنسان المسلم وقد تكفّل تربية هذه الشخصيّة المرموقة والملكوتية أفضل الناس وأعظمهم خلقًا وهو النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ذاب أمير المؤمنين (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذاب هو بالله، وقد عبّر الإمام علي (عليه السلام) عن هذه الحالة بقوله: “لقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل إثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علمًا يأمرني بالاقتداء به”.
إن الإمام أمير المؤمنين )عليه السلام) هو مظهر العدالة والقداسة والإنصاف والرحمة والتدبير والشجاعة، والعبودية لله (عزَّ وجلَّ).. ما زالت كلمات أمير المؤمنين عليه السلام تصدح وتملأ آفاق عالم الخلقة والحياة الإنسانية: “يا دنيا … غرّي غيري”
في ذكرى استشهاد الإمام علي (ع) لا نستنكر على من يريد أن يحيي هذه الذكرى بما يشاء من طقوس أو شعائر، وقد لا يعير خطباء المنابر أهمية لمن يدعوهم أن يحترموا عقول المستمعين ولا يكرّروا على مسامعهم ما هو محفوظ من سيرته أو تفاصيل استشهاده مما قد يضرّهم سماعه اليوم أكثر مما يفيدهم إذا وُظّف توظيفًا جيدًا، ولكن أمانة حمل القلم تحتم على حامليه أن يُعطى القلم والكلمة حقهما.
لعل من أهم الأسئلة التي تطرح في هذه المناسبة على أبناء الأمة بجميع طوائفها لأن عليًا (ع) كان خليفة للمسلمين عامة قبل أن يكون إمامًا للشيعة خاصة؛ هل أنّ قيم العدالة الاجتماعية التي أسّسها الإمام علي (ع) وحافظ عليها رغم ما عصف بالإسلام والأمة بعد رحيل رسول الله (ص) من فتن وحروب داخلية كحرصه على بيت مال المسلمين وحبه لليتامى وإيلائهم عناية خاصة واعتنائه بالفقراء والمساكين خاصة حيث كان يكرّر “أنا أبو اليتامى والمساكين، وزوج الأرامل، وأنا ملجأ كل ضعيف، ومأمن كل خائف”.
الإمام علي (ع) كان يستنكر على نفسه “أن يبيت مبطانًا وحوله بطون غرثى وأكباد حرّى ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع”، علي (ع) كان يعنّف أصحابه إذا انشغلوا بخلافات الماضي على حساب قضايا الحاضر المصيرية.
إن الإيمان الأصيل العميق بالحرية، نجده في الأسس التي قامت عليها مناهج أمير المؤمنين “عليه السلام” في الحكومة والسياسة والإدارة، فنظرته إلى الحرية مستقاة من نظرته العامة في الكون والمجتمع، بما يُمكن للناس من العيش الكريم ويهبهم الفرصة للانطلاق في ميدان الحرية بكل أشكالها ومعانيها والامتداد في الأفق الإنساني الوسيع، فأول مسلك في طريق الحرية هو إعلانه للناس مسؤوليته في إقامة ما هو حق وتهديم ما هو باطل.
فالحرية بمفاهيمها الواسعة هي مصدر الأصالة في حكومة علي بن أبي طالب “عليه السلام” وفي سياسته وإنها مرتبطة بعلاقات أبناء المجتمع بعضهم ببعض، بقدر ما هي مرتبطة بالضمير والوجدان ثم إن الإنسان الصاعد في طريق التعاون والتآخي لا يمكنه هذا الصعود إن لم يكن حرًا بجانبيه الذاتي والاجتماعي فليس حرًا ذاك الذي لا يصفو ضميره من الشوائب التي تحط بالقدر الإنساني، وليس حرًا ذاك الذي يهمله المجتمع علميًا وإن أقر بحقوقه أو ببعضها إقرارًا نظريًا في سبيل هذا البناء في الفرد والجماعة وقف علي (عليه السلام) من محبيه ومبغضيه على السواء موقف المصمم العازم، لا يقهره مطمع في غير الحق ولا يزعزعه عما هو عليه وعدّ أو وعيد، وكان يعلم حق العلم أن ذلك ثقيل على بعض الناس فيقول “إن أمرنا صعب مستصعب”.
إن عليًا (عليه السلام) حرر نفسه مما تقيد به ولاة زمانه من أغلال الأشرار بالحسب والنسب وحرر نفسه من المطامع في الملك والمال والجاه والكبر والاستعلاء.
وكذا الحال في حرية العقيدة الدينية فهي حق من حقوق الناس في دستور الإمام علي “عليه السلام”، فبما أن الحرية لا تتجزأ، فإن الإنسان لا يمكنه أن يكون حرًا من جانب ومقيدًا من جانب آخر، فالمسلم أخو النصراني شاء أم أبى، لأن الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، ولو لم يكن الدنوّ من الفضيلة هو المقياس الأصيل في دستور الإمام (عليه السلام) في الحرية ولو لم تكن الحرية الفاضلة حقًا مقدسًا لديه لما امتدح من يسيرون على منهج المسيح (عليه السلام) كما امتدح من يسيرون على منهج محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد سبق لنا أن نذكر خبر علي (عليه السلام) مع النصراني الذي سرق له درعًا وادعى أنه اشتراها وكيف عامله الند بالند أو الأب للابن ثم ما كان من شأنه أمام شريح القاضي وكيف أصبح النصراني في عداد من ناصروا الإمام (عليه السلام) بدمهم وحياتهم.
فالتعصب الديني مذموم في منطق علي (عليه السلام) وهو مغاير لأبسط قواعد الحرية التي يؤمن بها على أوسع نطاق ويقيسه بأرحب المقاييس ولا عجب في ذلك، فالإيمان عند علي (عليه السلام) نابع من أصوله الإنسانية ومن نظرته العامة إلى الحياة والوجود.
حقًّا سيّدي إنّك لم تكن نبيًّا ولكنّك كنت إمامًا ووصيًّا، لم تكن رسولًا ولكنّك كنت أخًا ووزيرًا، وكنت قدوةً، وكنت جوهرةً يتيمةً، خلقها الله وصاغها محمّد (صلى الله عليه وآله) وضيّعها الناس، كلمة ما أعظمها نطق بها جورج جرداق حينما سئل عن الإمام علي ّ(عليه السلام): أما عساني أن أقول في جوهرة يتيمة خلقها الله وصاغها محمّد (صلى الله عليه وآله).
إذن ما عسانا أن نقول فيك ـ وأنت إمام الكلّ ـ وفي فضائلك ومناقبك وفي إيمانك وتقواك وجهادك وشجاعتك، وفي علمك وأدبك وفي فصاحتك وبلاغتك، أنستطيع أن نصوغ معانيها البليغة والجميلة والعظيمة؟ وكيف نجرؤ أن نفرغ منقبة من مناقبك سيدي في قوالب حروف وكلمات لا نراها إلاّ ميتة؟ اللّهم إلاّ أن نقول وهو الحقّ: إنّها تبعث حيّة بذكر خصالك وفضائلك.
وحقًّا ما يقوله أبو إسحاق النظام: «عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلّم، إن وفاه حقّه غلا وإن بخسه حقّه أساء!».
وحقًّا أيضًا ما يقوله المتنبي في جواب من اعترض عليه في عدم مدحك على كثرة أشعاره وقصائده.
وحقًّا ما أجاب به المتنبي عند اعتراضه مدحك:
وتركتُ مدحي للوصي تعمّدًا *** إذ كان نورًا مستطيلًا شاملًا
يا سيدي لا أستطيع أريد أن أكتب وأكتب ولكن يداي عاجزتان ولساني منعقد.
حلاوة حب علي في قلوبنا لكن هيهات يا سيدي أن نضعها بكلمات.. تراني يا سيدي تقبلني مع ذنوبي وخطاياي؟
إلهي بحق علي وكرامات علي وقداسة علي وعشق علي وطهارة علي وقلب علي وروح علي إلا ما جعلتني من يموت على حبه..
وعظّم الله أجوركم.