“يا عالمًا بما في صدور العالمين”
ما بين جنبي الإنسان من خفايا أفكاره ومشاعره لا يطلع عليها أحد من العالمين، فلا خبر عندهم عن نيته إتيان عمل صالح أو فعل الخطيئة، ولا معرفة لهم أنه يحمل روح الخشية من الله تعالى أم أن عقله يفكر بالمعصية، ولا يعلم كل ذلك وأخفى إلا الله تعالى.
وهذا الإحساس باطلاع الله تعالى على كل أحواله في السر والعلن يوجهه نحو الإخلاص في العمل، فما عمل من معروف أو أتى من صلاة أو تلاوة كتاب الله تعالى أو صدقة سر فإن الله عالم بها، فليقطع العبد أمله ورجاءه من تكوين المكانة المرموقة بين الناس بدعوى أنه من الأتقياء، فعقل المؤمن المخلص لا ينشغل بنكران وجحود إحسان ولا ثناء أحد عليه، بل مبعث طمأنينته أن خالقه يعلم سره وخفاياه.
وعلمه بخفايانا يستوجب عملًا يراعي هذه الحقيقة، فإنه سبحانه يرانا ونحن نعصيه فإذا أسأنا الأدب ومارسنا القبيح وقد أرخى ستره علينا، فهذا لا يعني اغترارًا منا بحلمه علينا وإمهاله لنا، فإنه سبحانه ينتظر منا أن توقظ أرواحنا حقيقة معرفته بما في صدورنا، فنرعوي ونتوقف عن الخطايا، فلنراقب أنفسنا ولا نحسب إن خفيت عن عيون العباد أفعالنا أن الله تعالى غير مطلع علينا، فلنحذر من نقمة الحليم الجبار إن علم منا غيًا وجرأة لا تتوقف.
ولتكن حقيقة اطلاعه على خفايانا بارزة في تصرفاتنا ولا تبقى حبيسة فكر نظري، فيدل عليها تمنعنا عن الاستجابة للمغريات والمثيرات الشيطانية، لا لأجل شيء سوى حيائنا وخجلتنا من انكشاف سرنا، وخوفنا من مواجهة نقمته وعذابه يوم القيامة، حينها يقال إن أنوار هذه الحقيقة انعكست على جوارحنا وعملنا.
فإن من علامات الإيمان المتمكن من قلوبنا والراسخ فيها، هو خوفنا من عظمته ونقمته في ساعة الخلوات، فإن عرضت لنا المعصية كنظرة تلصص محرمة أو كلمة كذب أو غيبة لا يحضرها جمع من الناس صرخنا بقوة “معاذ الله”؛ لأننا نستشعر وجوده ومراقبته لأحوالنا فلا يخفى عليه شيء منها.
وهذه الرقابة والخشية من الله تعالى يستتبعها حذر وتنبه من مزالق وخطوات الشيطان الرجيم الذي يزين المعصية، فإذا عرضت له المعصية وشعر بضعف في نفسه أو بميل نحو ارتكابها، فليتذكر أن الله تعالى مطلع عليه فيتوقف عن القبيح.
ولا يخفى أن وقتنا المعاصر تحصل فيه لحظات الخلوة والابتعاد عن العيون كثيرًا، مما يسهل إمكانية ارتكاب الذنوب كما في مشاهدة ما تبثه وسائل الإعلام الهابطة، والأوضاع الاقتصادية وقلة ذات اليد قد تدفع ضعاف النفوس نحو تعاطي الرشوة والسرقة، فليستح من نظر الله تعالى له ويخش من مواجهته بفعله المشين يوم القيامة، فإن صان نفسه وامتنع عن الحرام في الخفاء فهذا يشير إلى تمكن حقيقة اطلاع الله تعالى على خفاياه في فكره و وجدانه، فمن علم باطلاع محب وقريب منه على فعله توقف عن الحرام والقبيح لئلا يسقط من عينه، فكيف بمن علم باطلاع محبوبه ومعبوده عليه، أفلا يكون ذلك باعثًا له نحو تحصين نفسه من الحرام؟!
فمن راقب الله تعالى ورعى علمه بخفاياه في ومض فكره وتيقظ مشاعره، كان الله تعالى هاديًا له سبحانه نحو سبل الخير وطرق الخير.