من وحي دعاء اليوم الرابع من شهر رمضان:
هنا فيض رباني في الشهر الفضيل يرتقي بالصائم في أفق السير التكاملي، وهو القوة النفسية والهمة العالية في تطبيق أحكام الله تعالى والواجبات المفترضة في حقه، فإن عالم التطبيق ليس بالأمر الهين، إذ هناك من العوامل المضادة لفعل المؤمن لها، وعليه تطويع نفسه وتقويتها لمجابهة الأهواء.
الطاعة المطلوبة شاملة لجميع تلك الواجبات والأوامر، ومن خطوات الشيطان الرجيم أنه لا ييأس من انحراف الإنسان عن جادة الصواب، وما لم يتحصل على غاية مكره بمخالفة تامة لكل الأوامر الإلهية، يقبل بسقف آخر من المعصية وهو حصول المخالفة في بعضها تجزئة وإن كان مطيعًا لمولاه عز وجل في الأخرى، أملًا في تغلغل أكبر يقلص مساحة الامتثال والتسليم، إذ إن حالة التجري والغي والمعصية مع نفاذ الشيطان إليها تفتح بابًا لاستجابة موسعة لشهواته، فحتى ما هو متمسك به من عبادات اليوم تضعف نفسه الشغوفة بالشهوات عنها وتنصرف عن إتيانها، فالأمراض الروحية إذا تغلغلت في الوجدان توطنت واستشرت لا توفر جزءًا إلا ورمته بدائها، فهذه الحرب الشرسة بين قوى الورع الداعية للطاعة وبين جند الشيطان لا تهدأ أبدًا، وفي لحظة غفلة واستهتار قد يجد نفسه قد خسر كثيرًا جدًا!!!
وقد يتمسك بامتثال أوامر الله تعالى ظاهرًا وصوريًا مع افتقادها لمضامينها ومخرجاتها، إذ الطاعات ما هي إلا طريق لتكامل نفسه وترقيها في عالم القداسة والطهارة والعفة، وبعض الخطايا تمحو مكتسباته الإيمانية، فالغيبة – مثلًا – تسلبه الحسنات المتحصلة من صلاة وصوم وغيرها من الطاعات، وتأخذ بفكره نحو الكراهية وبث الفتن والنميمة، فأي تقوى ومخافة من الله ينتظرها وهو لم يقم – في الحقيقة – إلا هيئة جوفاء لا دور لها في تحصينه.
مسألة إسقاط التكليف بإتيان الشروط المحددة فقهيًا شيء والقبول الحسن من الله عز وجل شيء آخر، فالإمساك عن المفطرات يسقط عنه التكليف، ولكن اجتراح الصوم بارتكاب المحرمات كالنظرة المحرمة أو الاستماع إلى ما لا يحل الله تعالى يعد مانعًا من تحصيل التقوى من الصوم، فينقضي شهر الله ولم يفعل إلا التوقف عن الطعام والشراب، بينما نفسه الملأى بالعيوب والنواقص والمولعة بالدنيا الزائفة بقيت كما هي بدون تغيير إيجابي، ومشاعره السلبية تجاه الآخرين لم تستطع مدرسة الصوم أن تحسن منها وتغيرها، فمنابت الكراهية المتجذرة في قلبه ما محتها ليالي القدر، فهل بصومه المتهرئ هذا يكون ممن أقام أوامر الله تعالى تسليمًا بكل ما ألزمه الرحمن؟
إقامة أوامر الله تعالى تعني خضوعًا للإرادة الإلهية فيما يفعل وينتهي عنه بدون تجزئة، ولا خروج عن القيم المعنوية التي تكتنفها تلك التكاليف، فالصلاة الحقيقية ما كفت النفس عن ارتكاب المعاصي، والصدقة المتقبلة ما قصده بها وجه الله تعالى بلا من ولا أذى، والصوم المطلوب ما أمسكت فيه جوارحه عن إتيان الآثام، فيرث من صومه فيما بعد الشهر الكريم حالة عرفانية يستحضر فيها وجود ربه معه دائمًا.