بين الحزن والاكتئاب تأرجحت لوحة رسام وأدب فنان، حيث رسم الفنان فان جوخ لوحة “المكتئب”، وكتب ويليام شكسبير مسرحية “هاملت”.
والعلم يوضح أن هناك اختلافًا بين مفهوم الحزن والاكتئاب، فالحزن شعور طبيعي يتولد لدى الإنسان نتيجة لمشاكل عدّة يواجهها في حياته، ومواقف سلبية تترك أثرًا في نفس صاحبها، ويختلف تأثيرها من شخص لآخر، وهذا الشعور يتلاشى عادة ويزول بعد مرور فترة من الزمان، بينما الاكتئاب مرض واضطراب مزاجي (Mood Disorder)، يغزو العالم وفي ازدياد، وقد ارتفعت نسبيته خلال العقد الماضي وأدرج من المواضيع التي تناولتها منظمة الصحة العالمية لعام 2017، إذ أطلقت المنظمة دعوة عالمية أسمتها “دعونا نتكلم عن الاكتئاب”، ويحتاج هذا المرض لفترات علاج.
وبالمقابل، من يعاني من الاكتئاب يشعر بالحزن والبؤس والشقاء ويجد صعوبة في التعايش وسط الحياة.
مرض العصر
أكدت دكتورة الأمراض النفسية والعصبية مها باشا لـ «القطيف اليوم»، أن مرض الاكتئاب يعد ثاني الأمراض انتشارًا، ووفقًا لأحدث الإحصائيات من قبل منظمة الصحة العالمية، يعاني 300 مليون شخص حول العالم من مرض الاكتئاب، ويعاني 7% من سكان الشرق الأوسط ومنهم المملكة العربية السعودية، من مرض الاكتئاب، وعدد كبير من مراجعي العيادات النفسية بالقطيف يعانون من مرض الاكتئاب.
وعرفت “باشا” الاكتئاب بأنه مرض من أمراض الاعتلالات العقلية، حيث إن الشخص المصاب يعاني من الحزن والتشاؤم لفترات طويلة، ويصاحبه عدم الإحساس بمباهج الحياة أو فقدان الحياة، وقلة الثقة بالنفس والآخرين، والانعزال عن المجتمع، وتغييرات بالمزاج، واضطراب في التفكير.
مرارة الاكتئاب
وأوضحت أعراض الاكتئاب التي تختلف من شخص لآخر، وكلما ازدادت الأعراض والمدة، ازدادت المعاناة، ومن هذه الأعراض: الشعور بالحزن واليأس والضيق، واللامبالاة وعدم الاستمتاع بمباهج الحياة، وشعور المريض بأنه إنسان عديم القيمة ويفقد الثقة بذاته، والشعور بالذنب وتقريع الذات، والإرهاق العام وعدم القدرة على القيام بأي جهد عقلي وجسدي، وعدم المقدرة على النوم، وأحيانًا كثرة النوم، وفقدان الشهية لتناول الطعام، وأحيانًا زيادة الشهية والإفراط بتناول الطعام، وأصعب الأعراض المعاناة الجسدية دون وجود أسباب واضحة، كالصداع وآلام الجسم.
لا يستهان به
وذكر مؤلف كتاب “الاكتئاب” الأخصائي النفسي زكريا المادح لـ«القطيف اليوم»، أن الاكتئاب اضطراب مرضي نتيجة تغيير كيميائي حيوي، ولا يستهان به، وله معايير خاصة لتشخيصه.
وأضاف “المادح” أن الأرقام تشير إلى زيادة انتشار الاكتئاب النفسي لدى المرأة بنسبة تفوق حدوث هذه الحالات بين الرجال، فبعض الدراسات تقدر نسبة الإصابة بالاكتئاب بين المرأة والرجل بحوالي 1:2، وفي دراسات أخرى وجد أن هذه النسبة 2:3، ويدل ذلك على أن مقابل كل حالة اكتئاب في الرجال توجد حالتان في النساء، أو مقابل كل حالتين في الرجال توجد ثلاث حالات في السيدات.
مسببات الاكتئاب
وأوضح أن الاكتئاب ينتج عن عدة عوامل بيولوجية، ونفسية، واجتماعية، ومنها: اختلال التوازن في المادة الكيميائية، حيث تشير الأبحاث إلى وجود بعض التغييرات الكيميائية والبيولوجية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمرض الاكتئاب، بالإضافة إلى الوراثة التي تلعب دورًا مهمًا وتعطي جاهزية معينة للاكتئاب لكنها غير كافية لظهور المرض، إذ لابد من وجود عوامل بيئية أخرى تفعل هذه الجاهزية الوراثية، كما أن الوراثة تؤدي إلى استمرار ظهور المرض على مدى أجيال.
وبيَّن أن من عوامل الاكتئاب الأخرى؛ الصدمة والإجهاد النفسي، فالتعرض لحدث معين، أو مجموعة من الضغوط، قد يؤدي بالبعض إلى الإصابة بالاكتئاب، ومنها: فقدان شخص عزيز، وتفكك علاقة اجتماعية، والانفصال أو الطلاق، وتغيير أو فقدان وظيفة، ومشاكل مالية، كما تؤثر مواقف مرحلة الطفولة على ظهور الاكتئاب في سن البلوغ، ومن المواقف المؤثرة؛ الفراق القسري عن أحد الوالدين، أو موت أحد الوالدين، أو الاعتداء الجنسي، أو سوء التعامل مع الطفل وحرمانه عاطفيًا.
وتابع: “كما أن استخدام بعض الأدوية والعقاقير قد يؤدي إلى حدوث الاكتئاب، كالأدوية المستخدمة في علاج ضغط الدم، وبعض العقاقير المضادة لمرض باركنسون (الشلل الرعاش)، وبعض حبوب منع الحمل، خاصة تلك التي تحتوي على نسبة عالية من البروجيسترون، وأيضًا المرض المزمن، مثل أمراض السرطان، فالإصابة بالمرض تؤدي إلى العديد من الآثار كانخفاض المزاج، وعدم الشعور بالراحة، وانخفاض القدرة على تنفيذ المهام، ما يؤدي إلى الاكتئاب”.
واستطرد: “نمط الشخصية له دور في الإصابة بالاكتئاب، حيث إن بعض أنواع الشخصيات تكون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب أكثر من غيرها، ومنها الشخصية القلقة، والشخصية العصبية، والشخصية الحساسة، والشخصية الأنانية، بالإضافة للشخصية الخجولة التي تميل إلى العزلة الاجتماعية خوفًا من انتقاد الآخرين، كما أن كبت المشاعر والانفعالات وعدم القدرة على التعبير عن المشاعر والانفعالات في وقتها، يؤدي إلى تراكمها، وبالتالي ينتج عن هذا آثار سلبية على الصحة النفسية.
هل من علاج؟!
وأوضح “المادح” قائلًا: “من أجل الوصول للعلاج الفعال، لابد على الفريق العلاجي الإلمام بكل جوانب حياة المريض وماضيه وحاضره، وكل ما تعرض له من مواقف ومشكلات، وطموحات، والظروف البيئية المحيطة، وطبيعة شخصيته، ثم يبدأ في وضع الخطة التي تتناسب مع حالته وظروفه”.
وقال: “تشمل الخطة عدة وسائل، منها: العقاقير المضادة للاكتئاب التي تستخدم تحت إشراف الطبيب، وعلى الطبيب توضيح الفائدة من استخدام العلاج، وما يسببه من آثار جانبية، والعلاج بالصدمات الكهربائية التي تعمل على إعادة تنظيم إيقاع الجهاز العصبي، عن طريق التيار الكهربائي والتغييرات الكيميائية التي تصاحب ذلك، ولا يستغرق مرور التيار سوى ثوانٍ معدودة، ويتم ذلك تحت التخدير الكلي، مع استخدام أدوية باسطة للعضلات، ويستخدم هذا العلاج مع حالات الاكتئاب الشديدة والتي لا تستجيب للعلاج بالدواء”.
وأضاف: “وهناك أيضًا العلاج بالضوء، ويستخدم هذا الأسلوب مع حالات الاكتئاب الموسمي لارتباطه بغياب أشعة الشمس، والعلاج الاجتماعي (الأسري)، فالأسرة لها دور كبير في نجاح العلاج وإخراج المريض من أزمته النفسية، حيث لا يقتصر علاج الاكتئاب على تناول الدواء، أو حضور الجلسات العلاجية”.
وتابع: “بالإضافة إلى العلاج بالعمل، عن طريق إشراك المريض في أنشطة مختلفة داخل المستشفى، أو عن طريق تحويل المريض إلى مؤسسات أخرى يقوم فيها بالتدريب على بعض المهام وأدائها، لدعم ثقته بنفسه ومساعدته على الخروج من عزلته واندماجه في المجتمع، وأخيرًا العلاج بالإرشاد النفسي، وهو يتم على صورة جلسات تدعيمية علاجية، فردية أو جماعية، ويضم عدة أساليب منها: المساندة والتدعيم، والعلاج السلوكي المعرفي، والعلاج بالاسترخاء الذي يساعد المريض على التخلص من أعراض القلق والتوتر المصاحبة للاكتئاب”.
وسائل حماية
واتفق “المادح” و”باشا” على أنه يمكن تقليل نسبة الإصابة من مرض الاكتئاب من خلال أخذ التدابير اللازمة، كتعـزيز قناعة الرضا بما قسم الله، وتقبل واقع الحياة والأحداث، وتحديد أهداف للإنجاز، والأكل الصحي، والنوم الجيد، والتمارين الرياضية التي تجعل الجسم يفرز مواد مضادة للاكتئاب مثل الأندروفين، وأفضلها رياضة المشي، والاستمتاع بممارسة الهوايات، وتخصيص وقت للتواصل الإيجابي مع العائلة والأصدقاء.