تلامُس سواحل القطيف؛ جزءٌ كبيرٌ من مفردات تراثنا يسير مع صناعتها واستخداماتها، تقف كعروس شامخة وسط تاريخ الأجداد وعرق الجبين وصوت المواويل، لا تزال صامتة حتى يخيل للرائي أنها رائقة وتلامس سطح البحر كنسيم خفيف داعب الموج فرسم ألوانًا وخط ذكريات، تجاور مثيلاتها ويثبتها ربانها بسارية تخرق المياه لتبقى في مكانها آمنة، وفي هيكلها الانسيابي عنفوان البقاء وصلابة التشبث بالحياة.
عبّر الله سبحانه عن عظمتها قائلاً: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلام﴾ فها هي سفن الصيد الضخمة على شطآن القطيف لا تزال تعمل وتشق عباب البحر لتحضر الأسماك والربيان، تنعش اقتصادًا وتوفّر موردًا غذائيًا طريًا، تبدو قديمة وأثرية ومصنوعة من خشب لكن العجيب أنها ليست كذلك!
وللحديث عن أصل صناعة السفن أي ما أطلق عليه قديمًا “القلافة” استضفنا الباحث عبدالرسول الغريافي الذي عرف معناها وبيّن دورها الاقتصادي وأوضح الطابع المميز للقلافة في محافظو القطيف.
اشتقاق القلافة
أوضح الباحث الغريافي المعنى اللغوي لكلمة “قلافة” بأن الفعل قلف من أصل عربي كما جاء في “لسان العرب” و”مختار الصحاح” و”المنجد”.. فحين نقول قلف الشجرة أي نزع عنها قشرها ولحاءها وقلف الظفر أي نزعه كما قال الشاعر:
يقتلف الأظفار بنانه… إلخ
ويقال أيضًا: قلف الصبي أي ختنه لأنه يزيل ما يحيط بقلفته، أما حين نقول قلف السفينة أي خل ألواحها يالليف وجعل في خلالها (خللها) القار منعا لتسرب الماء للداخل، واسم الفعل من قلف هو قلافة. ويكثر المصطلح كلفت عند القلاليف فيقال: أنا *أكلفت اللقبة بالفتيلة أي أصلح وسد الفراغ الذي بين اللوحين بالفتيلة بإحكام وكانت الفتيلة هذه تُصنع وتباع في سوق تاروت وأيضًا من البحرين وهو حبل يفتل من القطن مشاب ببعض المواد كالليف، وتنزع الفتيلة القديمة بمسمار خاص لهذه المهمة يصنعه الحداد وتزال لأنها تستهلك بعد فترة فقد تسمح لتسرب الماء إلى الداخل، وخلص إلى نتيجة أن القلافة هي اسم عربي يستخدمه أهالي الخليج كمصطلح بحري محلي والقلّاف هو الشخص الذي يقوم بهذه الأعمال والجمع قلاليف.
أكبر مقومات الاقتصاد في الخليج منذ القدم
وأبان الغريافي دور القلافة في رفع المستوى الاقتصادي فهي أولًا كحرفة ومهنة لكثير من الناس فقد قامت عليها أرزاق عوائل كثيرة وأيضًا هناك بعض القلاليف الذين يقومون بصناعة السفن كاملة من البداية إلى النهاية وهي أيضًا متعلقة بمهن أخرى كثيرة، كما أن صناعة السفن وصيانتها تنعش صيد الأسماك والغوص إلى اللؤلؤ وهي من أكبر مقومات الاقتصاد في الخليج آن ذاك وحتى الآن وأيضًا فالسفينة وسيلة للسفر.
قضب اللوز والقلافة
وتحدّث عن نوع الخشب الذي يستخدم في صناعة السفن قائلًا: “أما نوع الخشب فهناك المحلي وهو الذي يستخدم للصيانة والترميم ولبعض القطع الخفيفة وهو من جذوع (قضب اللوز) التي تنمو بكثرة في القطيف وهي أشجار اللوز لأن حذعه قوي وشديد ومقاوم وتصنع منه ما تعرف بـ(الكروات) وهي قطع على هيئة زوايا ناتجة عن ملتقى الفرع بالجذع على هيئة الحرف (L) أو (V) وذلك لتثبيت وتعزيز التقاء (الأصفاح) عند الزوايا؛ والأصفاح هي الجوانب”.
وأضاف: “أما الألواح المستوردة والتي تجلب أغلبها من الهند أو إفريقيا أحيانًا فأشهرها الساج المستخدمة لجدران اللنج”.
قلافون ثبتوا تاريخهم
وعن أشهر القلافين (القلاليف) في القطيف ذكر منهم المرحومين السيد باقر السادة (وهو من آخر القلاليف) والحاج أحمد العابد والسيد صالح السادة وعلوي السيد عباس القلاف ومكي الخاطر وعلوي السيد محسن وعلوي السيد أحمد.
ونوه قائلًا:” إذا وجد حرفيون بالساحة يصنعون نماذج مصغرة للسفن فلا نستطيع اعتبارهم قلّافين، إذا اقتصر عملهم على ذلك فهم نجارون وساد في فترة إطلاق مسمى القلافين عليهم، لكن الصحيح أن القلاف تطلق فقط على صانع ومرمم السفن”.
هل لا تزال القلافة حاضرة؟
وأجاب الباحث عن سؤال لـ«لقطيف اليوم» عن كونها مهنة حاضرة في المشهد الاقتصادي وقال: “لا يمكن القول بذلك؛ وذلك لأن السبب مرتبط بالمسبب؛ فلم تعد هناك تلك السفن أو اللنجات الخشبية الخليجية التقليدية المعهودة اللهم إلّا من شكلها التقليدي وإن كانت من بعيد تلوح إلى الناظر على أنها سفن خشبية قديمة فما هي في الواقع إلا سفن تبنى اليوم من مادة الفايبر في مصانع كبيرة أشهرها في دولة الإمارات العربية المتحدة”.
مهن مترابطة
وعن ارتباط القلافة بمهن أخرى قال: “لا شك في ذلك، فهناك الحداد الذي يصنع المسامير المعروفة بالحدادية بأنواعها وذلك من أجل تثبيت الأخشاب، وكذلك بياعو المسامير المستوردة وهناك -كما أشرت- صانع الفتائل التي تكلفت اللقب أي تثبت بإحكام بين الألواح وهناك أيضًا الصلال الذي يصنع الصل من زيت الأسماك وهي مادة تطلى بها الألواح والفتايل لتشكل مادة عازلة لمنع تسرب المياه وهناك المسجن الذي يقطع أخشاب جذوع قضب اللوز وهناك من يفتل الحبال ويشترك أيضًا في قلافتها وصناعتها تجار مواد الطلاء والأصباغ وغيرهم.
القلافة فن
وتابع: “لا شك أن القلافة فن من الدرجة الأولى؛ فهي تعتمد أولًا على نحت وحفر ونقر الخشب وأحيانًا يطلب المالك تشكيل بعض الزخارف في سفينته، كما أن شكل السفينة الانسيابي رغم كبر حجمها له طابع هندسي فني متميز، وللسفينة جمال أخّاذ يلفت النظر وذلك لما للأيدي التي شكلتها من مهارة فنية”.
القلافة في القطيف
مختتمًا بقوله: “أما تميز القلافة في القطيف بطابعها الخاص، فهذا يعرفه البحارة والغواصون وأرباب السفن بشكل عام؛ ففي عرض البحر حين تتلاقى السفن من مناطق مختلفة من الخليج فالجميع يميز وعن بعد أن هذه اللنجة التي أمامنا هي لأهل القطيف أو البحرين أو الكويت أو الإمارات فهم يعرفونها من خلال بعض ما يضاف لها من لمسات فنيه تخص أهل كل منطقة”.