هل يمكننا أن نتعرف على تلك المعايير التي يعتمد فيها الكتاب و المؤرخون بتوصيفهم زمنا ما بالرديء و المؤسف في واقعه و أحداثه ، و بين آخر يوسم بالزمن الذهبي الذي عاشت فيه البشرية أعلى درجات الرقي و التألق في سماء الفكر و الإنجاز و العلاقات المحكومة بين الناس بمبدأ الإنسانية الرحيمة ؟
التكريم الإنساني يقوم على مبدأ الرشد و الوعي الفكري ، و الذي يفسح المجال لمعالجة أي مشكلة أو ظاهرة سلبية بالحلول الممكنة ، ويرسم خطوط المستقبل المشرقة التي تعتمد على تنمية القدرات و المهارات البشرية ، و تطويع البيئة المحيطة بما فيها من خيرات و موارد لإنجاز إبدعات تفتقت عنها همتهم ، و المعيار الآخر هو الرقي القيمي و القانوني الذي يحكم علاقات البشر بعيدا عن لغة الأهواء و احكام الغاب ، فعندما ينشغل الإنسان بالكيدية و المناكفات و الخلافات و الطعنات المتبادلة ، تهوي أسقف العقول و الطموحات على رؤوس أصحابها.
والوجه المشرق في أي زمن يندرج تحت إطار التقدم الفكري والقانوني ، فتنظر في تفاصيل ما قدمت من كتب علمية و برامج حكمية و تدريبات مهارية و مخترعات تحسب لأصحابها في سلم التالق و النجاح ، و الوجه المظلم هو تلك الحقبة التي تخلى فيها الناس عن التعرف على ذواتهم و تطويرها و سد فجوات الخلل و النقاط السلبية ، و ساد الهرج و الاحتراب.
رأينا ما يقف له المنصفون و المتصفون بالموضوعية و المتخلون عن التعصب و العاطفية بإعجاب و إكبار و تقييم إيجابي ، فهذا سجل الاكتشافات و المخترعات و الإبداعات ينبيء عن حضارة و تقدم و استحقاق للإنسان بتسيده و تسنم قمة رقيه.
وأما فترات الانحطاط الأخلاقي و التخلف و الرجعية فهي سمات الزمن السيء الصيت ، فاستهدف الإنسان أخاه في الخلقة في مقدراته و ممتلكاته ، و لم يكن هناك من قانون رادع لطمع المفسدين و جشعهم ، و سادت لغة العنصرية و خوض المعارك الجانبية على نطاق العلاقات الأسرية و الاجتماعية ، فضاقت الصدور عن العفو و التسامح ، و اشتعلت جذوة الانفعالات و الظنون السيئة ، فاستبشر البعض متشفيا و منتقما و قاصيا و متجاهلا لغيره لأبسط الأسباب.
في رأيي لا يمكن أن تجد زمنا له وجه واحد ، بل هو كالقمر يضيء في ناحية و مظلم في الأخرى ، أي هناك تشابك و تداخل ما بين عوامل التقدم و الازدهار و بين السوء و الرداءة ، مع تغير في ميزان و نسبة أحدهما من زمن لآخر دون خفاء لإحدى الكفتين ، فما وجدت نفوس تتطلع لتحقيق ذاتها و التدرج في سلم الكفاءة العلمية و الكرامة المترفعة عن كل ما يسيء لها من مقاربة المعايب و القبائح فهو زمن الرفعة و الألق ، و ما وجد موطيء قدم لتفلت و غلبة أهواء فهو الوجه الظلم لذاك الزمن .