اجمل ما قيل في الكذب

من النادر ان تجد في مجتمعنا من لا يلتزم بأنظمة المرور والسلامة، هذا يعني ان شخصا حينما يتجاوز من الخط الاصفر فينبغي توقع انه احد السويديين او الالمان الذين يريدون العبث بانظمتنا وقوانيننا، واذا رأيت من يشتم او يتذمر ممن يستخدم منبه السيارة له فانّ الاحتمال الاقرب للواقع هو ان كوكبا مر بجانب كوكبنا ورمى علينا بعض هذه المخلوقات الغريبة على ثقافتنا وادابنا، في مناسبات الافراح ينتظم الجميع في صف يسير برفق وبنغم متماثل متجها للعريس وعائلته للتبريك، يهيء لمن يرى هذا الصف واحاديثهم الهادئة بانه يستمع لسمفونية موسيقية رائعة من العهد الباروكي للموسيقار الراحل كارل فيليب إمانويل باخ (1714 – 1788)، فلا تجد من يتجاوز الصفوف، ومثلما يذكر الناس سنة الطبعة والحربين العالميتين والنكسة ووقعة الشربة فانهم يذكرون بالتاكيد السنة التي تجاوز فيها احد الشباب الصف غير ابهٍ لمن قبله ليحتضن العريس باقوى ما يستطيع ويطبع خمسين الف قبلة على خديه قبل ان يشير للمصور بضرورة تصويره مع العريس وعائلته وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هوليودية ناعمة تُذكر بابتسامة الممثلين العالميين جورج كلوني وكريس هيمسورث اللذان يملكان وجهان ساحران لم يشابههما احد الا هذا الجميل الوادع، أما في الاحزان فوجوه المعزين تكسوها في الغالب امارات الحزن التي يواسون بها اهل العزاء، فالقهقهات التي يصل مداها من حسينية السنان الى الصالة الخضرا تصدر في الغالب من زوار غرباء «شطت بهم غربة النوى» في تلك الحسينية وهم حتى الساعة لم يفهموا ادابنا الرائعة وبرتوكولنا المميز.

تعانقا وجلسا يتحدثان، وحينما شعر سعيد بان فارس اسير للحزن بعدما افقده مديره مطلق بن شِليويح وظيفته، ادرك ان عليه السعي في قضاء حاجته دون ان يجعله مضطرا لطلب ذلك منه، وهذه الصفة في سعيد يتمتع بها الجميع في مجتمعنا، واذا كان هناك شخص لا يبذل اقصى جهده في خدمة اخيه فلربما كانت امه يوغسلافية او كوبية وتاثر باخواله هناك وبعض اصدقاء السوء، هكذا يملك الناس في الغالب حسا اجتماعيا كبيرا، فدكان ولد الديرة وصيدليته ومطعمه ومغسلته اولى بان يجتمعوا عليها دون غيرها، اما اصحاب المحال التجارية فانهم اكثر ورعا وخوفا من الله سبحانه وتعالى من ان يرفعوا اسعارهم لحدود غير مقبولة، او يتعاملوا بالغش والكذب مع زبائنهم، وبذلك فان احدا حينما يخرج الى السوق سيجد بين الباعة من يشابه ابا ذر الغفاري وسلمان والمقداد وعمار في الايمان والتقوى والحذر من الشبه.

الكلمات التي لم يسمعها الناس الا من القران الكريم والروايات الشريفة دون ان يجدوا مصداقا لها في المجتمع هي الغيبة والنميمة والبهتان، وبذلك فانهم اكثر من يستغرب حينما لا يبقى شخص في مجتمعات غيرنا الا لديه بدعة يعيبونه بها، اما هم فحينما يهم شخص في همز او لمز اخر فان جميع من في المجلس يوبخه باشد توبيخ، هكذا تنتقل معهم اخلاقهم الرائعة الى كورنيش القطيف الجميل ليقضوا من خلاله ليالي الربيع الجميلة دون ان يعكر صفوهم حصان او طرام او فيل او اسد يتمشي في طريق المشاة، ودائما ما يبقى عمال النظافة متحيرين في صباح اليوم التالي لعدم وجود شيء يستدعي بعض الجهد لتنظيفه، فالناس جميعا ياخذون معهم اكياس قمامة وينظفون المكان الذي جلسوا فيه بشكل دقيق وهكذا يتعاملون مع المرافق العامة بشكل عام مثلما يتعاملون مع منازلهم، ولشد ما لفت نظري الازمة القلبية التي اصيب بها احد رواد الكورنيش حينما وقع من يده منديل ولم يستطع الامساك به بسبب سرعة الرياح، فاصبح يلاحقه حتى سقط مغشيا عليه قبل ان ياخذه رجال الهلال الاحمر المتوثبين دائما والمتواجدين في ساعة الحدث الى المستشفى ليتضح لهم انه يحتاج لعملية قلب مفتوح سريعة، هكذا ما إن فتحوا قلبه اثناء العملية وجدوا مكتوبا في كل شريان من شرايينه وبالخط العريض: «سامحني يا رجل النظافة، وحتى لو سامحتني فلن اسامح نفسي، فكيف لي ذلك وقد تسببت لك بالالم»، هكذا بقي في المستشفى دون ان يخرجوه منه لعدم وجود سرير، وبعدما خرج بقي حتى لحظات عمره الاخيرة باكيا نائحا حتى قضى حسرة، وقد شيعه الالاف الى مثواه الاخير وابنته الشعراء وتقطع نياط قلوب المحتشدين في عزاءه، واقاموا له بعد الوحشة نصبا تذكاريا بعنوان «شهيد الكورنيش»، ولم يزل الناس بالمئات يتوافدون على مكان سقوطه في الكورنيش لايقاد الشموع والبكاء عليه، هكذا هو مجتمعنا الذي يثبت يوما بعد اخر انه مُلهم الانسانية لكل ما هو جميل ورائع.


error: المحتوي محمي