– أُصبوحةٌ في بيتِ الحكمةِ (٣)
– المنهج التربوي لدى العلامة الفضلي
كُلُّ من تحدثَ إلى الشيخ الفضلي (ره) يجده ذلك العالم الموسوعي، ويبصر بين جنباته الإنسانية الحانية، والتواضع الجمّ، يعامل الجميع بكلّ أبوية وصدق، لا يعرفُ للتصنّع في سلوكه سبيلاً، ولا يضنّ بعلمه على جلسائه، لا يذكر أحدًا بسوء ألبتة، بل وجدناه يحمل الآخرين، حتى من يختلفون معه، على محمل الخير، ويصفهم بالمخلصين والمتديّنين، يذهبُ بأسئلةِ محاوريه إلى آفاق ثقافية رحبة، لا يُظهرُ التبرمَ من كثرة الأسئلة، يُصيِّر الأسئلة المتواضعة أسئلةً ذات قيمة علمية.
مع ذلك كلّه، ترى الفُكاهةَ والظرافة المهذبة تجري على لسانه بكلّ عفوية.
يحمل في عقله عمق التجارب الناجحة في شتى نواحي الحياة التي صقلتها السنون وعركتها الحياة العملية، يُسْكِنُ في قلبه الكبير آلامَ الأمة وآمالها.
له عنفوانٌ فذٌّ من حيث الإنتاج العلمي- رغم شيخوخته – يغبطه عليه الآخرون.
عالمٌ بزمانه، فلا تهجم لوابسها عليه، لا يوجد في معجم يوميّاته: الصعب والمستحيل في تحقيق الأهداف إنه الرائدُ الذي لا يكذب أهله.
سمعتُ في إحدى زياراتنا لمجلسه العامر الأستاذ عبد الخالق الجنبي، أحدَ الباحثينَ في البحث التاريخي والرحلات، أثناء حديثه عن البحث الميداني للمواقيت الشرعية للحج الذي قام به العلامة الفضلي عندما كان مقيمًا في مدينة جدة أستاذًا في جامعة الملك عبدالعزيز، ومدى الجهود الكبيرة التي بذلها لسنواتٍ لتلكم المواقيت على كبر سنه، ونشرتها له (مجلة الموسم):
“لقد أتعبتَ مَن بعدك”!!
المحطة الأخيرة في الحوار
مع أنّ حِوار الأستاذ الشيخ لسماحته قارب الساعةَ، إلا أننا لم نشعرْ بالوقت؛ لجاذبية المكين والمكان. فلا غرو، فنحن أمام قامة علمية على مستوى العالم الإسلامي شهد لها الأعلامُ بالفضل والتميّز، واحتضنتْ كُتُبَهُ ومُؤلفاتِه الحواضرُ العلميةُ في البلدان الإسلامية فضلاً عن بعض الجامعات الأوروبية كجامعة أوسلو بالنرويج على سبيل المثال، التي أقرّت كتابه (في علم العروض نقد واقتراح) مقرّراً دراسيًّا في جامعتها، وأرسلوا له بهذا الشأن رسالة، نرفق لك أيها القارئ العزيز في هذه الخاطرة صورة من الرسالة المذكورة – ولعلّنا نخصص، بإذن الله، خاطرةً من الخواطر نبيّن فيها حضور مؤلفات العلامة الفضلي (ره) في الحواضر العلمية.
عودًا للحوار
قييم المناهج الحديثة للحوزة
سأله الأستاذ حسين الشيخ عن تقييمه للمقررات الدراسية التي ظهرت في الحوزة العلمية حديثاً، فأجاب (ره):
“قد كنتُ أجبتُ عن مثل هذا التساؤل في حوار أجري معي حول المناهج الحوزوية في (مجلة فقه أهل البيت (ع) العدد ٣٥ السنة التاسعة لعام ١٤٢٥هـ /٢٠٠٤م) الصادرة في قم المقدسة.
– وبعد رجوعي للعدد نفسه – أختصر لك قارئي العزيز إجابته في التالي:
” التجديد يكون على نحوين:
١- إما في البرامج كإنشاء مؤسستين، هما:
أ- كلية الفقه في النجف الأشرف
حيث أضافت مقررًا جديدًا، مثل: (الأصول العامة للفقه المقارن)، إضافة إلى العلوم الإنسانية واللغة الإنجليزية.
ب- دورة المرجع الديني السيد محسن الحكيم، حيث قامت بتدريس (فلسفتنا) و(اقتصادنا) للسيد محمد باقر الصدر.
٢- وقد يكون التجديد في المقررات، ومن الذين ساهموا في ذلك في العصر الحديث، هم:
أ- الشيخ محمد رضا المظفر في كتابيه: (المنطق)، (أصول الفقه).
ب- السيد محمد تقي الحكيم في كتابه الجديد في بابه (الأصول العامة للفقه المقارن).
ج- السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتبه: (الحلقات)، (المعالم الجديدة)، (فلسفتنا)، (اقتصادنا).
د- الشيخ محمد جواد مغنية في كتابيه (علم أصول الفقه في ثوبه الجديد)، (فقه الإمام جعفر الصادق).
هـ – الميرزا علي المشكيني في كتابه (تحرير المعالم في أصول الفقه).
و- الشيخ جعفر السبحاني في أكثر كتبه الدراسية التي أقرّتها جامعة المدرسين.
ز- وأخيرًا ذكر الشيخ الفضلي نفسه مجرّدًا من الألقاب كعادته باسم (عبد الهادي الفضلي) في كتبه الدراسية: أصول البحث، أصول الحديث، أصول علم الرجال، تاريخ التشريع الإسلامي، تحقيق التراث، التربية الدينية، تلخيص البلاغة، تلخيص العروض، خلاصة علم الكلام، خلاصة المنطق، مبادئ أصول الفقه، مبادئ علم الفقه، مختصر النحو، مذكرة المنطق”.
(وباعتبار أن الحوار معه في المجلة يرجع إلى العام ١٤٢٥هـ-٢٠٠٤م، فقد خلت القائمة من مقررات صدرت له بعد هذا التاريخ، نذكرها في سياقاتها إن شاء الله).
نقطتان مهمتان
وختم حواره (ره) مع المجلة بذكر نقطتين لهما من الأهمية الشيء الكبير، وهما:
النقطة الأولى: شكر جهد المؤلفين الذين لم يدرج أسماءهم ضمن قوائم المجددين وسبب عدم ذكر أسمائهم؛ كونهم لم يأتوا بجديد، بل قاموا بتكرار المألوف والمعروف في المقررات السابقة الموروثة في حدود ٥٠٠ سنة.
النقطة الثانية: احتاط الشيخ كعادته بقوله:
“ربما كان هناك غير مَن ذكرتُ أسماءَهم في قوائم المجددين لم أوفق للاطلاع على أعمالهم أرجو ألّا يعد ذلك إهمالاً منّي”.
مواصفات واضع المقرر الدراسي
سأله الأستاذ الشيخ:
ما هي مواصفات واضع المقرر الدراسي؟
أجاب سماحته:
أولاً: أن يكون موهوبًا في كتابة المناهج، ويشهد له بذلك.
ثانيًا: لديه اطلاع واسع على المناهج الأخرى.
ثالثًا: أن يكون له نظرة إلى المستقبل لا إلى الحاضر فقط، آخذًا بعين الاعتبار التطور السريع في الحياة المعاصرة.
مواصفات المقرّر الدراسي
سأله الأستاذُ سؤالاً ذا أهمية كبيرة، وذلك حول مواصفات المقرر الدراسي الجيّد، فأجابه إجابة تعدّ مقياساً محوريًّا لكل منهج دراسي ..
ما هي الشروط المطلوبة في المقرّر الدراسي؟
أجابه (ره) إجابةً هي عُصارة سنوات طويلة من الخبرة والتجربة قائلاً:
“لا بُدّ أن يحتوي المنهج على العنصر التربوي والعنصر التعليمي بشكل متوازن …
فيكون التوزان والتوزيع بينهما كالتالي:
١- في مقررات المرحلة الابتدائية يركز على العنصر التربوي بنسبة ٧٥٪، والعنصر العلمي ٢٥٪
٢- في مقررات المرحلة المتوسطة يتوزع العنصران النسبة بينهما ٥٠٪ تربوي و٥٠٪ تعليمي
٣- في مقررات المرحلة الثانوية
تكون نسبة العنصر العلمي ٧٥٪
ونسبة العنصر التربوي ٢٥٪
٤- في المقررات الجامعية يتركز العنصر التعليمي فيها بنسبة ١٠٠٪
طلبتُ مزيدًا من التوضيح
أثناء إجابته عن السؤال السابق، طلبتُ من سماحته التوضيح أكثر فقلتُ:
ماذا تقصدون شيخنا بالمنهج التربوي بالتحديد؟
هل أن توضع في آخر كلّ درس في المنهج أسئلة مناقشة أو تلخيص لكلّ درس؟
أجابني بابتسامته العريضة، التي لا تشعرك بثقل سؤالك:
“المطلوب من المعلم مثلاً في دروس اللغة العربية في المراحل الأولى للطالب، كالمرحلة الابتدائية أن يلقنه مفردات المناهج، دون تعمّق، ثم شيئًا فشيئًا عن طريق التمرينات والتطبيقات المرفقة مع كلّ درس تتكون لدى الطالب ذهنية علمية”
“فالغاية في كلّ المراحل الدراسية في التعليم النظامي بدءًا من الابتدائية إلى الجامعية، وكذا في الدراسات الشرعية الحوزوية بدءًا من المقدمات وصولًا إلى البحث الخارج التي هي آخر مرحلة في الدراسات الشرعية الحوزوية أن تكون لدى الطالب ذهنية علمية وقادة”.
ولا تتحقق تلكم الذهنية العلمية إلّا بالممارسة الطويلة وكثرة المران، فلا يكفي في الطالب الحوزوي مثلًا أن يدرس العلوم الشرعية المتنوعة كأصول الفقه، وعلم الرجال، وعلم الحديث، دونما تطبيق وممارسة.
فهذه العلوم الآنفة الذكر إذا كانت في منأى عن التطبيق والممارسة لا تخرج فقهيًّا ومجتهدًا في الدراسات الشرعية.
وللممارسة والتطبيق أساليبها المتنوعة، مثل:
– كتابة البحث العلمي
– المناقشات العلمية”
تأسيس برامج للموهوبين
وختم (ره) حديثه عن أهمية تأسيس برامج للطلاب الموهوبين في الحوزة العلمية، التي تعنى بالطالب الموهوب وذلك عبر برامج خاصة، استفادةً من تجارب الجامعات الغربية، حيث تقوم تلك الجامعات بإعداد برامج مخصصة للموهوبين، يسرع على إثرها الطالب الموهوب بعد خضوعه لاختبارات ومحكات علمية”.
شكر الله مساعي الأستاذ الشيخ على أسئلته القيمة ورحم الله المهندس الأستاذ فؤاد ابن الشيخ عبد الهادي الفضلي حيث كان موثقًا لهذه الزيارة المباركة بالفيديو
رحم الله علامتنا الفضلي، وحشره مع المعصومين عليهم السلام.