خطوات إلى الماء.. فيض الذاكرة

مع تباشير الفجر وصياح الديك ينهضن من سباتهن، يستقبلن أنفاس الصبح بالحمد والشكر ،أصواتهن هلاهل فرح تناغي منطق الطير الباحث عن قوت يومه، هن مثله غاديات لسر الحياة ، مبكرات يسرن خفافا وعين الله تحرسهن وتبارك لهن الخطوات، درب يطوى، ورقرقة تسمع ، عيونهن شاخصة للعيون ، ناشرات الكفوف بين غسل وارتواء، عروق تبتل كما الأجساد ،انغماس في حضن الماء وتطهر من أدران التعب ، يستحم معهن الكلام وأحلام الليل ، ويستنشقن البوح أغنية لايعرف كنهها إلا صوت الخرير ، تعاود بعضهن (العين) أكثر من مرة برفقة أسرة أوبصحبة جارة ، أقدام خطوهن تتراوح بين إبطاء وإسراع حسب ثقل الحمولات ، ويقطعن الدروب من(غبشة الصبح) إلى (سلوم الشمس ) كلما اقتضت الحاجات، سائرات بلهفة الشوق في كل المواسم، لايأبهن ب(سموم القيض) ولاعواء رياح (المرابعين) ، يتلحفن بجلباب الصبر أنشودة بين عزم و مسرة ، تعانقهن (فيات) النخيل وظلال جدران الطين وبيوت السعف، وحدهن الباسقات وتراب المسافات شواهد على كدحهن نحو ينابيع الماء.

تجوب (دورثي ميلر) أنحاء القطيف وتقترب من عيون الماء التي توردها النساء، تستبيح خلوتهن بفضول توثيقي فتصوب عدستها نحوهن عن قرب دون غضاضة منهن ، يأنسن لها لكونها أنثى مثلهن وإن كانت غريبة عنهن، بعضهن انشغلن عنها بطقسهن اليومي وأخريات ينظرنها بعجب، فهي الكاسية العارية و الكاشفة عن مفاتنها باستعراض البياض وتقاطيع الجسد ، شعرها يتطاير بدلع ودلال، وهن يتسربلن بالسواد والأسبال البالية ،هي الغنية من أرضهن ترفل في نعيم وتعليم وهن المكافحات في بؤس (ينتخين) قطرات الماء المسحوب عنوة لدفع النفط ، ابتسامتها تتوالى لهن مع كل لقطة ماكرة واستجابة منهن مماثلة بحياء وهمهمة كلام ، ضيفوها بالسكينة والطيبة اللآمتناهية رغم المعاناة والشقاء، فاختلست منهن أجمل اللقطات وأمام أنظارهن لكن دون أن يعلمن ماهية هذه الآلة التي بين يديها ! عكستهن بعفويتهن المتماهية مع إنسيابات الماء ليصبحن فيما بعد حنينا للقلوب ومسرة للعيون ووثيقة حية للذاكرة.

أقام فريق (غرفة الذاكرة) مؤخرا معرضا بعنوان (خطوات إلى الماء) على صالة نادي الصفاء بصفوى ثم نقلوه لجمعية الثقافة والفنون بالدمام ، كل عرض 7 أيام، أسبوعان متتاليان وقعا ما بين يوم المرأة وعيد الأم ، هكذا خطط القيوم عليه ليكون هدية وتحية إكبار لتلك النسوة المضحيات اللآتي حملن الماء وهنا على وهن ، ودعكن أجسادهن والملابس وتزين وتعطرنا في كنف العيون . معرض نوعي يحتفل بطقوس الماء في قطيف الأمس عبر توقيع كتاب ومنحوتات وصور. أخذونا لعوالم ماضينا فوتوغرافيا عبر عين الأمريكية (دورثي ميلر ) الموظفة لدى شركة (أرامكو ) حيث قادتها قدماها لاقتحام تجمعات النساء عند العيون وجداول الماء بامتداد واحتنا الخضراء فوثقت عبر كاميرتها مرحلة هامة وشاقة وعسيرة من معاناة (نساء أول) وكشفت عن جمالية أمكنة الماء ودروب المنازل والنخيل ، صور ثرية ترصد فترة هامة من عقد السبعينات ، الذي كان الماء سخيا في نبعه وشحيحا في توصيله للبيوت حيث شبكات توصيل المياه شبه معدومة، مشاهد مألوفة لمن عاش ذلك الزمن ، ومجهولة تماما لجيل اليوم.

تتوه الحواس عبر 16 صورة بتأمل وتفرس وهيام ، اندهاش وانشداد لكل جزء من عناصرها حيث كل ماتحويه له قصة وحكاية، زوار المعرض يسيخون السمع لأصوات نسائية عبر الهاتف الجوال باستخدام سماعات الأذن بواسطة (الباركود ) يسردن حكاياتهن العذبة المرافقة لعذوبة ماء تلك الحقبة، شهادات حية على كل صورة وكأن الصورة تنطق من صمتها ، فالناظر إليها بإنصات وإمعان سيرتد به الزمن للوراء ، وسيعيش للحظات معاناة أمهاتنا المبللات بشضف العيش في حضرة الماء وغابات النخيل ، يطرب الوجدان أغنية عبر أناشيدهم المروية في الرواح والغداة، كل صور تكتمل مشهديتها برؤية الأخرى، فتسكن المتلقي نفحات فرح ، ووخزات ألم ، وارتعشات وجد. حميمية النساء، ألفة ماء، ورباط قلب كالجسد الواحد لايشتكين أف ولاينهرهن أحد ، كل نعيم نحن فيه اليوم أتى من عرقهن من دمعهن ، من سعيهن المتواصل داخل أسوار البيت وخارجه، شامخات كما النخيل والمآذن بصوت الله أكبر على كفاحهن ، لله ذركن يامن صلتكن الشمس في سبيل إحضار الماء للحلوق الضمئة ،صببتن الماء لإعداد الأطعمة صبا وأرضعتن الولد تلو الولد، وداويتن الجراح بأيديكن الشافية.

تحضر مخيلة الأحفاد بالأسئلة الجوعى، من هؤلاء النسوة ، أصحيح هن أمهاتنا جداتنا ؟
صورهن تجيب (حي على خير العمل)، أيتها الخيرات صوتكن المبثوث يرن صدى بحكاية وألف حكاية،أمهاتي ياقطيفيات الأمس، أرواحنا مسافرة شوقا إليكن تقبل هاماتكن بامتنان، وتنثر على محياكن نعناع وريحان، وتهديكن أغلى التحيات من نبضات الأفئدة، يامن رأيناكم بأم أعيننا ورصدنا عناءكن اليومي كصلاة واجبة. سلاما لكن يامن وردتم الماء صبرا وافترشتن جرف (الساب،والمساقي والعانة، والركية)، وترشفتن بين قيام وقعود، وخضتم صخب (العيون النباعة)، عين رأت أقدامكن المقدسة ووجوهكن متلألئة على سطح الماء.

كل الصور نسجت وقائعها دقة ووضوحا بـ (الأبيض والأسود) ، بمقاس 90×60، وثمة سؤال في فضاء الوقت، هل تلك الصور أخذت في فترة السبعينات تحديدا كما جاء في الورقة التعريفية عن (دورثي ميلر) والملصقة على الجدار والتي تستقبل الزوار قبل الولوج لعالم صورها الأخآدة، فقد أنبأتنا السطور بأنها أتت لمنطقتنا عام 1947م، أصحيح انتظرت كل هذا الوقت إلى أن جاءت فترة السبعينات فحملت كاميرتها وجابت بيئتنا، أمن الممكن أن يكون الالتقاط في فترة الستينيات وربما قبلها حيث تدلل بعض الصور على وجود الأواني الفخارية التي تراجعت مطلع السبعينات وتحديدا (البغلة) التي كانتا وسيلة نقل المياه، لذا من المرجح بأن تكون الالتقاطات قبل العقد المشار إليه، علما بأن الأفلام الملونة عرفت منذ السبعينات بين الناس العاديين فكيف والحال عند(دورثي) فكان حري بها أن تستخدم الفلم الملون، وإذا سلمنا جدلا بأن الالتقاط تم فترة السبعينات هل في أولها أومنتصفها أو آخرها ؟. إن تحديد سنة التقاط الصورة يعطيها زخما زمنيا يبنى عليه أشياء كثيرة ، وسيؤطرها تاريخيا لدراستها من جوانب عدة وبتفصيل دقيق لماحوت من عناصر ضمن سياقات بحثية.

وسؤال آخر في أي منطقة من مناطق القطيف تم الالتقاط ، فالعيون كثيرة، ومنطقتنا بها بلدات وقرى عدة ؟ المعرض لم يشر لذلك ، اكتفى تحت كل صورة بتعريف مبسط لم يرتقي لجماليات الصور، إن تحديد تلك الأمكنة وأسماء تلك العيون سيزود محبي الإستطلاع خبرة إضافية وسيروي ظمأهم المتعطش لمعرفة كفاح أمهات الأمس وعن الأماكن التي وردوها عناء وتعبا وفرحا ، وأما للباحث سيغني مادته بثراء أوسع وسيربط حجم تاريخ المتغير والمتحول في بنية المكان والزمان.

إن السائح في معرض (خطوات إلى الماء) سينبئه الأستاذ نسيم عبدالجبار أحد المبادرين لهذا المشروع بأن الصور أحضرت من جامعة (جورج تاون- في واشنطن) عن طريق المصور والكاتب السيد/ أثير السادة ، عراب هذا المشروع والعاشق لتراث وتاريخ المنطقة، والمتيم بحب القطيف ، له كثير من الأحلام المؤجلة التي لم تزل مخبئة منذ زمن ، أخرج بعضا منها في هذا المعرض الذي يعتبره علامة مضيئة لتعزيز ثقافة الصورة وقراءة محتوياتها بعيون تاريخية وأدبية وفنية ، كما حضي المعرض بمنحوتات خشبية أربع تجسد حركة النساء الساعيات لينابيع الماء، وكأنهن انعكاس حسي للصور ، تقاسمت تكويناتهن أنامل النحاتين (رضا وحيدر العلوي) ، اللذان وزع الحفر بين تجريد مختزل ومحاكاة واقعية، جهد مقدر وسط ندرة النحت في وسطنا التشكيلي المحلي، فالأخوين بأعمالهما الرائعة ينضمان لقائمة النحت في منطقتنا والمحصورة بين اثنين بين النحات الرائد الفنان (كمال المعلم ) المبدع على الساحة العالمية والنحاتة الأولى بين فناناتنا (مهدية آل طالب) ،فأبناء العلوي عبر هذا المعرض أسس لمشروعهما المنتظر.

وأضفى على جو المعرض بعد آخر بعرض (فيديو آرت) الذي يحوم في عوالم 16صورة، تارة يسبح في جداولها ويطير بين نخيلها (زوم إن) وأخرى يصافح حراك النسوة في طقسهن مع الماء، ترافق الصور لقطات حية تم تصويرها حديثا لمزارع النخيل و (المساقي) لبعث روح الحركة في مشهدية الصور برؤية بصرية وبموثرات موسيقة تراثية، اشتغال فني قام به (يوسف عبدالله) وهو جهد فني أشبه بالتوثيق السينمائي.

إن المتجول بين جنبات المعرض سيعيش حلما (نوستلوجيا) وسينقطع عن زمنه الحاضر لبعض الوقت، ولحظة مغادرته منه ستعلق به روائح الطيبات من عطور محبة ودروس تضحية ، متعطرا بعبق أمهات الأمس ، وحاملا بين يديه كتاب ثمين بعنوان (عيون القطيف- الفردوس الموؤود) للأديب والمحقق السيد عدنان العوامي، هذا الرجل لن تفيه كلمات مقتضبة ولا عبارات عجلى ، فهو الشاعر المبدع والحارس الأمين لتاريخ وتراث المنطقة، والماسك بتلابيب اللغة، إن كانت عيوننا نضبت فنبع السيد لم يزل متدفقا يروينا من معينه فكرا ومعرفة وثقافة ، أطال الله في عمره بصحة مديدة خدمة لأرضنا الخصبة المنتظرة أمطار أبنائها من المبدعين والمبدعات.

إن كتاب (الفردوس الموؤود) الذي أعد خصيصا لهذا المعرض فهو يستحضر كل مايتصل بذاكرة الماء على امتداد رقعة واحتنا التي كانت يوما خضراء غناء بما لذ وطاب ،صفحات تشيء بصور جاذبة وثرية بعضها منسية من خرافة وأساطير وفلكلور ، وميثولوجيا ، وحكايات شعبية، وألعاب مائية ، متطرقا للعدد والأدوات المرتبطة بالماء ، ومفندا آراء من سبقوه بأن عيوننا الطبيعية حفرها العمالقة ! مستدلا ببحوث جيلوجية تنفي تلك الظنون.

كما يستذكر (السيد) وقائع ممزوجة بالخيال ، وأحداثا غرائبية سال فيها الدم من أجل قطرة ماء ، وتتوالى في الكتاب قصائد شعرية متنوعة (قافية، وتفعيلة ونثر) كلها تتغنى بالماء المنساب والمنحسر مالحا وعذبا والمنسكب فيضا على الخضرة والنابع تحت الأديم والمبلل على جبين وهامات أمهاتنا الحسان ، صفحات تتقفى أثار دروب أصبحت اليوم نسيا منسا .
وتنبعث من بين السطور أنفاس الأولين الذين حفروا بسواعدهم جداول المياه بأشكالها المختلفة ومسمياتها باللهجة المحلية الموزعة لري الحقول والبساتين الشاسعة وأضخمها (السدود) وهي من مفاخر أرض القطيف التي لايوجد لها مثيل في الدول المجاورة، جار عليه الزمن بلا هوادة ولارحمة. فأصبحت أثرا بعد عين.

(الفردوس المؤوود) مرثية شجن تعاتب حاضرنا المقفر، وتفشي سلاما وداعيا على واحة باتت تحتضر . هل أصبحت أرضنا يبابا ؟.

معرض (خطوات إلى الماء) هو فيض من ذاكرة تأبى الرحيل ، وحنينا مؤنسا لزماننا الموحش ، ليت الزمان يعود بي صبيا وأعاود الذهاب مع أمي لجلب الماء من عيون البساتين ، لأرى أهلي وجاراتي وبنات الحي اللآتي قصصن على مسامعي أجمل الحكايات.

تحية إجلال لوالدتي التي تقاسمت معها مشواير خطواتنا إلى الماء .
وكل ملامح نساء الصور هن ملامح أمهاتنا وجداتنا وخالاتنا وعماتنا وأخواتنا..
المعرض أفاضني دمعا على دمع خبأته عن الأنظار


error: المحتوي محمي