أيام لِشْراك الغالي

يرتحل الوجدان بعيدًا و تهبُ الحواس سرورا بمقدم شهر رجب، خلجات قلوب مسافرة بأنغام المناداة ، ياربيع الأمس يابهجة الأنس ، ياصفاء النفس ، خذوني لفضاء الطفولة ، لغنج البراءة، لمراتع الصبا ، خذوني لأنسام الربيع ، لطعم الورد ، للود ، للحب، للقلوب الصافية، لأحباب ( ديرة هلي ).

بلهفة وصوت متهدج قالت لنا المعلمة ( بارك الله فيكم ياأوليداتي ، يكفيكم هذا اليوم قراءة ماتيسر من كتاب الله ، قبلوا المصاحف وضموها زين ، واستعدوا لأيامنا الحلوة القادمة، ترى بكرة لِشْراك ، ومعناه الكل يتشارك صغار وكبار بفرحة مواليد الأئمة ولاتنسوا مقاضي وجبتنا الهنية ، وبعد ما أجهز غذاكم المشترك ، نتناوله ظهرا مكان ختمتكم القرآنية، وعند العصر نشد الرحال كلنا إلى مسجد الخضر ، ولاتنسوا الحلويات ، الله يحفظكم ياأولادي وبناتي محروسين بعين الله )، (إن شاء الله إن شاء الله ، الله وياك يامعلمة ، أمك وأبوك في الجنة) نطير فرحا ، نعبر الدروب الضيقة والأزقة المسقوفة ونتخطى عتبات الدار ، ننادي ست الحبايب ، (يايمه جهزتي أغراضي ويا الثوب الجديد بكرة لِشراك وأحلى عيد) ، ( نعم .. يانور عيوني ) ، نعاود منزل المعلمة محملين بلوازم الطبخ المطلوبة ( علبة كبريت ، قارورة گاز ، فلفل ،ملح ، بصل ، لومي عماني ، ثلاث شيلات رز ) مع دفع ريالين ، من أجل شراء لُودام ( روبيان ) ، تنهمك المعلمة صباحا مع بعض الأمهات في إعداد طبخة (المحموص ) ، وعند الضحى أول (يوم لِشراك) ننطلق بتوجيهات من أهلنا والمعلمة لتنظيف المساجد من كنس وغسل وتنظيف الفوانيس والحصر ، ونختار القريبة من منازلنا(مسجد الرفعة ، والشيخ علي ، والشيخ رضي ) بعد الإنتهاء من أداء ترتيب متعلقات المسجد نقف صفين متقابلين ، صف يحمل الصفاري وصف خالي اليدين ويبتدئ الأخير ( اعطونا أگديركم / يأتي الرد ، / اِيلاويه ؟ ، لوحدة حاية ! ، ويش جابت / جابة ابنية / ويش سموها / سموها صفية // صفية ياصفية بيضة ومستحية ….)، بعد صلاة الظهر نجتمع حول سفرة واحدة، نتاول الغذاء بأدب جم في حوش بيت المعلمة العامر بذكر الله ، وماتبقى من طعام ، يوزع على فقراء الحي ، مع اقتراب تباشير العصر ، تتقدمنا المعلمة والأمهات منطلقين سيرا على الأقدام إلى حيث الملتقى ، وعلى رؤوسهن ( لِنْفاريات) ، وبعض الأواني المليئة بالأطعمة المتنوعة ( نخج ، لوبة ، ساقو ، سيوية، خنفروش ) ونحمل عنهن بعض المؤونة الخفيفة ، نطرق بالأكف عليها مرة والأخرى نضرب بالعصي على التنكات ، نعبر دروب البساتين المليئة باللوز والرمان والتين ( باشلامه ، الفسيل الصغير والكبير ، زيزة ) سعفات تهتز ، وأغصان تتراقص بمداعبة هبات النسيم ، سواقي المياه تنساب رقراقة بين الظلال الوارفة ، وأصوات البلابل تزفنا طربا بأناشيد اقتراب اللقاء ، نرقب مجاميع آتية من (الربيعية وتاروت و السنابس)، نطوف بعضها وتسبقنا أخرى ، وكل يمنّي النفس بسرعة الوصول، نقترب شيئا فشيئا من بناء يزهو بلونه الأبيض ونوافذه الزرقاء ، قائم على تلة من بقايا أثر ، ارتفاع يوازي النخيل المحيطة به شموخا بعلاقة وطيدة منذ زمن ، نرتقي صعودا وننشد ( جيناك يالخضر زايرين ،حفظنا رب العالمين ) ، ندلف من البوابة الخشبية الشمالية ، نلتقط أنفاسنا بصلوات تعانق السماء، ننتشر في الفناء الخارجي المزدحم بالنسوة ، المحملات بالعطور والنذور والشوق والحنين ، متأنقات بأزيائهن الهاشمية (رماني ،شخشاخي ، أبو وردة ، تول أبونغدة ، تنويعات من سراولة مشجرين بالخيوط الملونة ، وأخرى أبوخياطة ، وبنقشات نارجيلة حمد) ، وفتيات في عمر الزهور وأكبر قليلا، يرفلن بأثوابهن الجديدة (كمشة بت الشيخ ، صحن البيسرة ، الريشة، دحل المو ، اشرب كأسك وتهنأ ، زمام ، الشَّبفه ، حلو التيله ، مشاشيغ ….) ، أشكال من الأقمشة الملونة ، تكتسي الأنوثة الغضة تألقا وجمالا ، أما نحن الأولاد تزيننا ثوب بيضاء وگحفية مزركشة ، تأخذنا الأصوات شوقا للبهو الداخلي ، حلقات حلقات ينبعث منها قراءة مواليد الأئمة و(زيارة النور )، اشتراك جماعي وطقس احتفالي لن تراه إلا في رحاب هذا المكان، أوراق الريحان وماء الورد يتناثر على محيا الحاضرات ، وأمام المحراب المعطر بدهن العود والقرنفل والعنبر، أشبعته الأكف المرفوعة تضرعا إلى الله بتراتيل الأدعية والزيارات المقدسة ، الملتمسة يقينا في طلب الحاجات والمرتجية بعون الله لتحقيق الأمنيات ، بخور ينبعث من المباخر الموزعة في كل الزوايا و( الروازن) أدخنة تتطاير، تتكثف كغيمة من ضباب، تداعب العيون المكحلة بالفرح والألق ، وشعر( مگرمل بالمشموم ) ، وأقدام مزدانة بالحناء (غمسة) كخلخال من ذهب ، بين لحظة وأخرى تردح الصبايا من الجدار إلى الجدار ، جيئة وذهابا يتخطين الجالسات والواقفات ، ويتمايلن برؤوسهن المكتسية بالمخانگ ، وجوه قمرية تردد الأهازيج المتوارثة ( جانا لِشراك الغالي جانا جانا ،والعود اِمْطَيّبنا جانا جانا ، جانا لشراك الغالي جانا جانا والبخور اِمْفوحنا جانا جانا، لشراك يبغى قلوب صافية لشراك لشراك، لشراك يبغى قلوب واعية شراك لشراك ….. ) بين أهزوجة وأخرى تتعالى الصلوات(أول من نبدأ ويش نقول ، ألف الصلاة على الرسول ….) ،( ياسدرة أحمد ..واه واه فيها محمد … واه واه فيها الرسول واه واه ..العلم نور …) يتوقف البعض لاسترداد الأنفاس ، ولالتقاط الحلويات ( علوچ ، گريصات ، قناطي ، بيض الحمام ، حب الأناسة ) . تتنوع الأهازيج بين فترة وأخرى وتتوزع على زيارة سبعة مساجد خلال أيام لشراك ، تنشد الفتاة الأكبر سنا من الآخريات ( لاتضربني بالطاسة ياخليلوه ..اني ابنية ونخاسة ياخليلوه ..لاتضربني بالمشمر ياخليلوه آني بنية و اتگشمر ياخليلوه .. لاتضربني بالملاس ياخليلوه آني بنية بنت الناس ياخليلوه ..لاتضربني بنعالك ياخليلوه آني بنية بت خالك ياخليلوه لاتضربني بالدفة ياخليلوه وتقاربت الزفة ياخليلوه ..والعين سودة والزلف باب أحمر ..ياخليلوه.. ) ، وتتعالى أصوات أخرى بحركات وصفية ( …سرولي يالخليلي يا خياطه الزين كل الفتايا اتحنوا على طرقين وآني اطريق واحد ماصبغ فيي زين باروح لمرة ابويي اتحنيني عشرة وجهك يامرة ابوي ياوجه الگوبعة …گوبعة.. گوبعة..) ، وجوه ضاحكة مستبشرة بالبراءة والمرح ، وأصوات تتداخل بأنغام المسرة والفرح ، تنادي النسوة على أطفالهن المنتشيات بالأهازيج الشعبية ، تجمعهن قبل غروب الشمس بوقت كاف للوصول إلى منازلهن بعيدا عن جنح الظلام ، وقبل خروجنا من فناء المسجد نأخذ رزقنا من ( اللقيمات ، منفورة، حلويات ) وينال من تلك البركات قيوم المسجد (الحاج /أبو سعيد الشيخ ) الذي بيده مفاتيح الأبواب ، يهزها سرورا وامتنانا بعطايا الناس . مواكب الفرح تشد الرحال أيضا خلال أيام لشراك الأربعة إلى مسجد شيخ محمد بسنابس ، ومسجد الحجة في لغميري ( حي الريف – العوامية ) ، ومقام النبي يسع ( ع ) بالأوجام ، ومسجد الشيخ عقيل بالحلة ، مساجد تتعنى لها في الغالب الأمهات مصطحبات أطفالهن ، للزيارة والصلاة فيها قربة إلى الله تعالى، وقراءة مواليد الأئمة الأطهار .

تتجدد هذه المناسبة من كل عام ، وتحيى خلال اليومين الأخيرين من شهر جمادى الثاني ويومان من غرة رجب ، لقد شهدنا تلك الأيام بمنظار البراءة لامسنا البهجة والفرح تلو الفرح ، فرح بالحياة ، وبإدرك وعي الكبار أنها أيام مباركة معطرة بالعبادة من صلاة وصيام وأدعية وردح طفولي تتجلى الأرواح كروح واحدة و تشترك القلوب مع القلوب بنبض واحد .

إيه يازمان الوصل هل تعود بنا كما كنا ، أحبابا كأسرة واحدة أم غادرتنا تلك الأيام إلى غير رجعة ؟، عاودت أن أسلك ذات الدروب التي مشينا عليها قبل خمسين عاما ، والأماكن التي حللنا فيها فرحا بأيام لشراك الاحتفالية المتنوعة ، أغلب المعالم تغيرت وبعضها اختفت وأصبحت أثرا بعد عين ! .

من يعيد إلينا فرحنا المسلوب من يعيد إلينا مزارعنا البكر ، بحرنا، آثارنا، عيوننا، حتى ضياء القمر لم نعد نراه كما الأمس !

وحدها الصور القديمة هي نجومنا الأخيرة في ليالينا الموحشة .

ومن القلب أشكر أستاذي الدكتور عبدالله حسن آل عبدالمحسن الذي حفظ لنا هذا الطقس الجميل الذي تختص به جزيرة تاروت دون غيرها من قرى وبلدات القطيف عبر مسرحيته للأطفال الشهيرة والتي جسدت هذا الموروث قبل 40 عاما على خشبة مسرح نادي الهدى بتاروت وارتحلت لمسارح جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران ومسرح رعاية الشباب بالرياض ، وكان لكاتب السطور حظ في رسم خلفية المسرحية مع الأخ الفنان جاسم الصايغ ، والأثر الباقي لهذا المسرحية التسجيل الصوتي والصور الفتوغرافية .

وكذلك تحايا خاصة/إلى والدتي وزوجتي وصديق العمر /محمد الصغير الذين زودوني ببعض المعلومات وجميل الذكريات وألف رحمة على أرواح معلمتيّ أم شاكر السني وأم علوي (جدة سيد محمد الدعلوج – أبو رائد ) اللتان أخذتا بأيدينا لمسجد الخضر في مثل هذه الأيام احتفاء بأعياد لشراك المباركة.


error: المحتوي محمي