“سموها القلعة وانقلعت ” يردد كبار السن من سكان القلعة السابقين الجملة السابقة، تطفو على وجوههم ملامح الحسرة والألم، يستحضرون اللحظة وكأنها الآن ماثلة أمامهم، هنا كان لعبنا، هنا كان بيت فلان، هناك حضر الملك فيصل للزيارة، والبحر كان قريب جداً، كنا في بين واحد إلا أنه كبير جداً، وقلوبنا كانت أكبر منه، في القلعة بيوت لجيران الرابط بينهم غرفة من الأعلى، وتتم مشاهدتها من أعلى الساباط، ولا يثبت الحق في العقار إلا من خلال الصك، كان هناك بيوت يربط بينها أبواب داخلية، وكأن كل القلعة عائلة واحدة ممتدة، التزاوج كبير من أسر القلعة حتى بعد الخروج منها، فكل أسرة تعرف تاريخ الأخرى، ولا حاجة للسؤال.
أم عبد الرسول التي لازالت تسكن حي الزريب كان منزلها نقطة عبور من داخل الحي للشارع الرئيسي، شارع الملك عبدالعزيز، كان المارة يطرقون الباب ويستأذنون للخرج من باباهم الآخر، تقول أم عبدالرسول لـ «القطيف اليوم»:” من ما يحب القلعة؟!!، كل من سكنها يحمل ذكريات الطفولة والشباب، والآن أصبحوا يخشونها ليلاً، ذلك بسبب الممرات ” الساباط” المظلمة، والسبب الأكبر هجران الكثير من المنازل”. التزمت الصمت لثوانٍ أشاحت بوجهها، ارتجف صوتها أكثر من ارتجافة كبر السن، وقالت: “كنا نسكن في منزل واحد، أكثر من عائلة، أنا وزوجي وأولادي كلنا في غرفة واحدة، وكان معنا اثنان من إخوة زوجي بأولادهم وزوجاتهم، ولكل منا غرفة واحدة فقط من المنزل، كنا سعداء رغم الضيق وازدحام المكان، كانت النفوس غير”.
لا تتذكر كم مضى على سكنها في القلعة، إلا أنها فتحت عينيها على القلعة، وبحسبها: ” من أيام السور من الدروازة للوارش، عندما أخرج من المنزل للجانب الآخر لداخل القلعة تراها مختلفة تماماً، ولازال صوت لعب الأطفال في الشارع في الممرات -“السوابيط”-“، وتردد: “وين راحوا الجيران؟ راحوا المقبرة “.
وتؤكد:” لن أخرج إلا للمقبرة “، وعلى الرغم من غياب الأشخاص وتغير المكان، إلا أن الأصوات لازالت حاضرة في ذاكرتها، الباب المشترك كان كفيلاً بتحقيق رابط قوي بين الجيران: ” كانت منازل بينهم باب، يتزاورون ويطلبون نواقص غداء اليوم من بعضهم”، وتقول أم عبدالعزيز: ” لم نخشَ بعضنا، أبوابنا مفتوحة طوال اليوم، كانت القلعة بسور كبير، وثلاث بوابات ضخمة، عليها حراسها”.
الحاج عبد الرسول المصطفى (أبو عبدالعزيز) منزله من أول المنازل في مدخل “الزريب”، لازال مكان جلوسه كما هو، ومنذ سنوات طويلة أمام باب منزله، المصطفى الذي لا يختلف عن أم عبدالرسول، وحال سؤاله عن قدم منزله ومحاولات عدة لترميمه يأتي رده واحداً: ” لاويش أطلع من بيتي”، على الرغم من مغادرة الجيران، فالمنازل المحيطة بمنزله خالية من سكانها، إلا أن الذكريات تسكن ذاكرته، وعلى الرغم من حديثه بـ”صيغة الماضي”، إلا أن صوته كان يعود شاباً قوياً، وكأنه يستمد قوته من ذاك الزمن، على الرغم من يقينه بأنه لن يعود، ويتذكر هنا بيت الغانم، بيت الخنيزي، الجشي والمبارك “رفضي للخروج من منزلي ليس له سبب إلا أنه منزلي، ما الذي يدفعني للخروج منه”. 5 منازل في القلعة هي المأهولة بسكانها الأصليين، والكبار منهم، أما الصغار غادروها واستقروا في أحياء القطيف”.
رضا الحوري يتذكر سكان القلعة التسامر على “الدجيج” وهي مرتفعات أسمنتية أشبه بالحواجز، تم بناؤها للجلوس عليها، وكانت مقراً لتجمع البنائين، فمن أراد بناء لمنزله ما عليه إلا التوجه للدجيج، حينها كان البناؤون من أبناء القطيف، الطين الجص، الحجارة البحرية، وجذوع النخل، وفي الأعلى رجم الطين، كان هناك براحة الخيل لربط الحيوانات، أما الماء للعوائل البسيطة التي لا تملك بئراً في منزلها كان في “المغيبوه”، وهو بئر ماء والكل يأخذ منها ماء، ليست كل البيوت فيها ماء، أما السباحة في عين الوارش، وقبلها عين الزريب، ولكنها غابت، هنا لعب الأطفال التيلة، هناك الخطة، هنا كانت جلسة نسائية بين البيوت حين يبرد الجو، ربما تجمعن لقراءة حسينية، كان رجال القلعة يعرفون المواقع ومن يجلس فيها مع الوقت، فما عليه إلا رفع صوته بـ “يا الله”، ليعبر في الساباط الذي يقع فيها منزله.
11 برج للحراسة وسور يمشي عليه الخيل !
في حديث مع الباحث والمؤرخ عبدالرسول الغريافي قال ” مساحة القلعة 350 ألف متر مربع، وكانت تضم خمس أحياء: الزريب، الخان، وفي الشرق من حي الخان حي السدرة، شمال شرقي حي الوارش، الحي الخامس هو الحي الوسطي، وكان يضم بارجة عبدالحي، وهو عبارة عن سوق، ودكاكين، ومقبرة صغيرة، وكان للقلعة 11 برجاً للحراسة، وباب الكوت، ويقع شمالاً ولا يسمح باستخدامه إلا للعسكر، باب الفرضة، باب الشمال من جهة شمال غرب، باب السوق مقابل الشريعة الصكة، أما سور القلعة كان ضخماً جداً، وارتفاعه 9 أمتار، أما الأبراج ارتفاعها يصل إلى 13 متر، وما تبقى الآن أقل من خمس المساحة الأصلية، سور القلعة كان شكله -نسبياً- هرمياً، في الأسفل أعرض من الأعلى، وبحسب المصادر التاريخية إنها من القرن الثامن وكانت مخازن للتوابل والحبوب، وبحسب أبو الفداء، وبحسب وصفه أنها ذاتها القلعة، وقلعة على أثر قلعة بين الفرس بداية ومن ثم الاتراك “.
السيف والقلعة ….
الأسماك من شباك الصيد إلى النار مباشرة، ولو كانت 12 ليلاً، قرب الخباز حينها دافعاً للأكل مباشرة، لم يكن البحر بعيداً، والسفن ترسوا على سيف القلعة، ومكانه قبل الردميات من دوار القلعة مباشرة، هناك كان مقر الجمرك أو كما ينطقونه سابقاً “القمرق” خبر عودة البحارة بالأسماك، أو التجار بالبضائع الجديدة، كانت تصل كل بيت، لتصحوا القلعة على صباح جديد، بعودة غائب، أو الحصول على حاجة كان مقرها بلاد ما وراء البحار، جهاز عروس من البحرين أو علاج مريض أحضروه من الهند.
لماذا براحة الحليب ؟
كان هناك ما يسمى بالجوامع في القطيف، ومنها جامع “القلعة” أو ما يسمى براحة الحليب، لأنها تجمع الناس والبياعين وتنشط بشكل كبير في رمضان، لأن أهل القلعة أغلبهم إقطاعيون، وملاك للأراضي، فكانوا يطلبون الحليب والبيض بشكل يومي، ويستمرون في بيعهم حتى بعد شهر رمضان، كانت لفلاحات من القرى، يحضرن للبراحة لبيعهم، لأن الرجال يذهبون للأسواق لبيع الخضار والفواكه خاصةً الليمون، سابقاً الفلاح الذي كان يبيع اللوز، الكنار، والبطيخ، مستضعفاً، لأنها حكر على النساء في البيع، بعكس بياع الرطب، وكانت هناك براحة الخيل تقع في الزاوية الشمالية الشرقية، في فريق الوارش وتستخدم “مربط الخيل”.