عين مفتوحة بإتساع 4-2

بعد أن فرغنا من تجوالنا في سوق المزارعين برفقة الفنان (عباس الموسوي )
وعند انتصاف النهار أخذنا السيد بيديه الدافئة وبقايا اللون الترابي المخضر ملتصقا بأصابعه ، إنه خضاب يومي مغموس بطين الجداول و(الأسياف) ، أمسك أيدينا تناوبا، نتحسس نبض شرايين قلبه الدافقة محبة وعطاء كنبع عيون دلمون .. خطواتنا تتبعه وتسلك منطقة (القرية ) حيث محترفه الفني الملاصق لسكناه ، مبنى متشح بياضا وسط المرج الأخضر، تتوزع عليه مجسمات مختلفة الأحجام تتناغم مع المشغولات الحديدية التي تزين النوافذ والأسوار وكلها من تصميم وتنفيذ الفنان ، دخلنا ( القالري ) الذي تفضل بافتتاحه معالي الشيخ راشد آل خليفة عام 2013 م ، المعنون ب (بيت الفن ، السلام ) عيوننا هائمة في الإستديو أو المحراب أو الصومعة كلهم تتلو التراتيل والتسابيح لتمجيد الأرض وعطاءاتها اللامحدودة ، بين اللون النابض بالحياة ، وبين عوالم لوحاته ، تتجلى ذائقتنا البصرية بتنغيماته اللونية المعزوفة بألق واقتدار ، عينه مثقفة واعية ، متأملة عبر ريشته التي لا تهدأ طوال العام فهي متفرغة مع إطلالة كل يوم للإبداع والإنجاز ، مشاهده المتنوعة تأخذنا لأزمنة ذاكرته المختزنة صورا لأسواق المنامة العتيقة وحوانيتها المغبرة بعتمة البنفسجيات وعمق الكحليات والتماع البيجيات المختلطات بضجيج الباعة
ومفاصلات المتبضعين، وقوف وحراك بين مشتر وتاجر ، نسمع حكايات الجالسين على أطراف المقاهي مع ارتشافات (إستكانات الشاي) أصناف من البشر نواخذة سفن وطواويش الدان والمحار ، وبحارة متعبين قادمين من أنحاء الخليج ومن الهند و أصقاع أفريقيا، بعضهم يبحث عن الرزق و الراحة، وآخرين يفتشون عن المتع العابرة خلف الأزقة الخلفية ؟! ثمة نساء غاديات يتساقط عليهن الضوء الماطر من الأسقف المائلة المتشحة ب(الطرابيل والأخياش) قطع اهترأت بتعاقب الأمطار وحرارة (سموم القيض) ، رائحة المكان وتكوينات المعمار الشعبي تأسر القلب لأزمنة الكادحين وبساطة الطيبين ، الحواس مسافرة عبر ريشة عباس الساحرة، تخرجنا من الأسواق محملين بأصالة الماضي، وتمضي بنا للحقول النظرة و تضيفنا متعا لونية لبيئة الأرياف المترامية زرعا ووردا والمستظل بشموخ الباسقات وأشجار اللوز والرمان، وتحممنا عطرا في عيون أهل القرى الغافية أكواخهم بين النخل والبحر، ثمة أودية وهضاب وواحات تستقرئ المسافات لمعابد (باربار) وجنة دلمون المفقودة، براري مقفرة إلا من عذوبة اللون الذي كسر الوحشة، باصطباغات ريشة عباس التي أنسنت تلك الأمكنة المقفرة بامتداداتها وزهورها البرية المختلطة مع الحصيات والأعشاب النابتة بالتموجات الحركية على التلال وسفوحها الغنية بالثراءات اللونية تحيلنا شمما لوقائع طرفة بن العبد وصهيل خيوله المغرمة صبابة ومجدا ، براري مفتوحة على المدى يأتينا صوتها همهمة لغزاة افترشوا ترابها الذهبي بين كر و فر ، فضاءات تتكرر بأوجه عدة لا تشبع منها الرؤية ولا تمل لأن العيون تتكحل بها مسرة ، وتتغنى الذائقة بها متعة مابعدها متعة ، متعة بصرية غاوية بفتنة حسن من دلال تردد الأنفاس بآهات الإعجاب
(الله الله) (ماشاء الله)
عبارات تتهادى عفوية.. لانطباع يجوب نفوسنا ، بانعكاس لما نراه ونستبصره حنينا وشغفا لحواضر منسية مستعادة فنا وإبداعا ، وجوه الحسنوات أودعها لوحاته المستطيلة بعيونهن الحالمة لتكتمل روعة الجمال (الماء والخضرة والوجه الحسن) فلوحات الموسوي تذهب عن المتأمل الحزن ، وتسكنه في رياضها إحساسا معنويا بربيع متجدد ذا بهجة ومسرة، وتسكره نشوة بتلألؤ الألوان المنسابة من ريشة حرة طليقة خبيرة تقطر الحب وتنثر الود وتشدو الفرح بتعظيم الجمال ، سمو روحه الشفيفة المتماهية عشقا لأرض (تايلوس) نسمع ألوانه أنغاما ونرى كلامه إنجازاً من فراديس ..
نجول في ربوعها ونروى من فيضها ، ونعاود الحنين كلما وطأنا أرض البحرين …
عين حسن الجيراني كانت لنا بالمرصاد ..
نقلت نبض قلب عباس العاشق للحياةوالفن والناس .

 

عبدالعظيم شلي


error: المحتوي محمي