عن أمير المؤمنين عليه الصَّلاة والسَّلام:
إِضَاعَةُ الفُرْصةِ غُصَّةٌ !
نهج البلاغة، باب المُختار من حكمه، 18
هذا النص من جوامع الكَلِم؛ لأنه يشتمل على معانٍ كثيرة بألفاظ قليلة.
وهنا وقفة سريعة مع هذه الكلمات الثلاث:
إضاعة مصدر الفعل (أَضَاعَ)، نحو أطاع: إطاعة.
(أَضَاعَ) فعل رباعي مزيد متعدٍ بالهمزة من الفعل (ضَاعَ)، في حين (ضَاع) فعل ثلاثي لازم، بمعنى : فُقِدَ.
وعندما دخلت عليه الهمزة صيّرته متعدِّيًّا، فأصبح المعنى: ٲفْقَدَ؛ ولذا تسمَّى هذه الهمزة همزة التَّعدية.
قاعدة : زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
تقول:
ضَاعَ القلمُ، أي فُقِدَ.
وأضاعَ الطَّالبُ القلَم، ففيه زيادة معنًى، وهو أن الطالب تسبب في ضياع القلم.
وبالرجوع إلى النص السابق نفهم أن (إِضَاعَة الفُرْصَة) فيه معنى الإهمال وعدم الاكتراث، بخلاف (ضَياع الفُرْصَة) التي لا تحمل هذا المعنى .
الفُرصَة:
في (الصِّحَاح):
الفُرْصَةُ: الشّربُ والنوبَةُ، وجاءت فُرْصَتُكَ من البئر، أي نوبتك، وبنو فلان يتفارصون بئرَهم، إذا كانوا يتناوبونها، وانتهز فلانٌ الفُرْصَةَ، أي اغتنمها وفاز بها، وأفْرَصَتْني الفُرْصَةُ، أي أمكنتني، وأفْرَصْتُها: اغتنمتها.
وعدم تحديد الشيء الـمُضَاع يفيد العموم، ليشمل كل فرصة أضاعها المرء بسوء اختياره:
مادية : مثل وظيفة، صفقة تجارية، مشروع يمكن أن يدر ربحًا …
معنوية: طلب علم، زواج من امرأة صالحة، صداقة…
وهكذا يمكن أن تكون :
دنيوية.
أخروية: مثل أن تكون عبادية من حج أو اعتكاف.
ويمكن أن تكون على مستوى :
الفرد.
الجماعة (الدولة).
غُصَّةٌ:
في لسان العرب:
الغصة: الشَّجَا، وغَصصْت باللقمة والماء، والجمع الغُصَصُ. يقال: غَصِصْت بالماء أَغَصُّ غَصَصًا إِذا شَرِقْت به أَو وَقفَ في حَلْقِكَ فلم تكدْ تُسِيغُه.
قال عدي بن زيد:
لو بِغَيْرِ الماءِ حَلْقِي شَرِقٌ، كنْتُ كالغَصّانِ بالماء اعْتِصارِي
وفي قوله : (غُصَّةٌ:) استعارة مكنية؛ فقد شبَّه من يُفوِّت الفُرَص بإنسان يأكل (أو يشرب) ثم يغص باللُّقمة (أو يشرق بالماء)، ثم حذف المشبه به (وهو الإنسان) وأبقى صفة من صفاته وهو الغَصُّ، على سبيل الاستعارة المكنية.
وعليه فإن المعنى الحرفي ليس هو المُراد من النص، بل جاء من أجل تقريب أمر معنوي غير محسوس (وهو التَّفويت) بأمر حسي مُلاحظ، وهو أبلغ في بيان المطلوب.
ويمكن ٳرجاع ٲسباب تفويت فرص الخير ٳلى:
التسويف.
الجهل وعدم إدراك ٲهمية الفرص.
سوء التقدير.
أو لغير ذلك.
وهذا النص يقترب في معناه مع النص المشهور لأمير الكلام:
الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ؛ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ اَلْخَيْرِ!