معراج الرضا

من بين تعاقب الليالي والأيام .. ومن تحت تراكم الأحلام والأوهام .. ومن خلال تَـفَـهِ اللذات .. وطول وجع الآنات .. ومن بين رجاء اكتساب الحسنات .. وتحاشي الوقوع في الزلات .. تنبتُ البصيرة .. وتتشكل المسيرة .. لتُزرع على جنبات الطرقات عِبَرَ السنين .. وتسقيها العَبراتُ بحسرات الحنين .. فيزدهر النضج ، وتينع الحِكمة ، ويثمر الحصاد ويكثر ، والذي لابد له بعد قطفه أن يباع ويشترى ، ثم يزرع تعاقبا حين تأخذ به العقول ، لترتويه وتتغذاه وتستنيره .

لا قيمة للمرء وهو يسترشد بالجهل ، ويستدل بالغرَرْ ، فيترنح حينها على جنبات الهلكات ، أو الغرق في مستنقعات الموبقات .. ولا حياة لمن يتلجلج ويتوارى ، وقد احتوى بين جنباته المكانة والقوامة ، وحصد بين مداركه النباهة والفهامة ، إلاّ أن يكون عن الجسارة بعيد ، ومن الإقدام والتضحية رعديد .

إن المعنى الحقيقي لملكوتية الحياة هو الحصيلة التي أنتجتها الملكات ، وأفرزتها الهبات والصفات ، فسار على دربها بمشيئة رب السماء ، وإلاّ سوف يكون والبهم سواء بسواء ، ولا نظن سواها ، تلك البصيرة العتيقة والتي تشق الجبال شقا ، وتخرق الصخر خرقا ، وتفلق المستحيل فلقا ، وتقرأ ما وراء الممكن واللا ممكن ، لتتوقع ما هو حتمي الوقوع ، فتحميه بالإرتقاء ، أو تحتميه بالإتقاء ، وتتصداه لتقي منه غيره ، فالبصيرة أعلم بالمقدر ، وأجدر بالمقدور ، وإن غُفِـل عنها ، واستغفلتها الظنون ، ولكنها يوماً ما ، وفي لحظات أسفٍ ، ستتكشف حقيقتها ، لتحيل الأماكن إلى حسرات ، وتستنزف القلوب والأرواح مرارات ، يوم لا تنفع النداءات ، ولا تفيد البكائيات .

لا تعش لنفسك بالمطلق .. وانذر أيامك لغيرك .. ميّت الأنانية ، وحيّ الإمتداد .. حين تلبي نداءات التضحية والفداء ، لتكون كبشاً منذ اللحظة الأولى التي تعي فيها معنى الإنسانية . فاعشق الآخر ، لتذوب فرحاً ورضاً في وجوه السعادة حين تراها ترتوي من عرقك ، وتشبع من كدك وجهدك وأنت تبتهج وتُسر ، بعد أن يورق الخير فتكون عندها قد أضفت لعمرك أعماراً ، وحفرت على الجُدرِ أسماءً ، لعلها تذكرك عند ربك ، وحتماً هي فاعلة ..

واحسب الخطوة بعد الخطوة ، واعلم ابتداءاً وابتلاءاً أين تضعها ، وكيف تسيرها .. ولربما يفهما الآخر عكس ما تريد ، ولكنه لابد أن يقول يقيناً في لحظة الحقيقة أن غايتك نبيلة وجليلة ، حين تكون بصيرتك ونيتك بريئة براءة المؤثر من دم الأنانية ، وإن جلب لك ذلك التعاسة ، فالغاية تبرر الوسيلة دائماً ، وليس شرطاً أن يعلم الآخر في الحين والتو ما قصدت ، ولكن ذلك سوف يتكشف يوما ما ، وإنْ للفطن اللبيب ولا سواه ..

تحتاج أحياناً أن تجرع الآخر السم لتشفيه بإذن ربه ، أو أن تكويه لتقيه مساوئ فعله ودربه ، وهو يعلم من حيث لا يعلم ، أو لا يعلم من حيث يعلم أنه محاط بالمخاطر ، وغير محتاط لمساوئ التسرع والتجاسر ، خلاف ذلك ، لابد أن تتجرع السم أنت ، أو تطأ الجمر وتشعل النار في جسدك ، لتخيف من تحبه وتبعده عن لهبها وويلاتها ، وإن قال الآخرون إنك لمجنون .. بل أنك لعلى بينة أكيدة .

لا يمكن إلاّ أن تكون متقِـداً .. لا أن تعيش ملبّـدا .. وإن كلفك ذلك بعض الخسران .. وانحسار الضجيج من حولك ، فقد خلقت لتكون فِعلاً وفاعلاً وفَعّـالا ، ولكي تموت لتحيا بين ناظري الدنيا وخلود الآخرة ..

لا يهم أن تكون تاجراً ، ولا وريث غنى ، ولا سامياً بالأصالة ، ولكن عليك أن تبنى نفسك حتى لا تشعر باليتم ، واجعل أفكارك هي أسرتك التي تشكل الضجيج الذي يغرقك في كينونة السعادة ، ومعراج الرضا ، ويلهبك في الإنتشاء ، ويمنحك حقك الحياة ، والإفتخار بالذات ، شاكراً الله سبحانه وتعالى على ما أعطى من فضله ومنِّه .

وسبحان من خلق وسـوّى .. وقدر فقضى


error: المحتوي محمي