مع أن الاختلاف من الأمور التي تواكب الوجود البشري في الحياة، فلا يوجد مجتمع من المجتمعات يعيش أفراده التوافق والتطابق المطلق في جميع وجهات النظر، وأساليب العمل، ومنهجية التفكير، ويتحكم في زيادة وجوده وقلته في مجتمع ما، عدد أفراد ذلك المجتمع. ويعدّ الإنسان العنصر الأساس في وجوده.
ويعتقد كثيرون أن الاختلاف من الأمور السلبية، ولذا نراهم يحاربونه بوسائل متعددة، ويفوتهم ما له من الآثار التربوية الإيجابية الناجحة، تساعد على ازدهار مستقبل البشرية ونجاحها. قال تعالى:- (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال سبحانه:- (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً).
وعلى أي حال، سواء كانت النظرة للاختلاف سلبية، وأنه عنصر هدم في المجتمع، أم كانت النظرة إليه إيجابية، وأنه أحد أسباب البناء والرقي فيه، لابد من الوقوف على مناشئ وجوده، وأسباب حصوله. لأنه لا يختلف عن بقية الموضوعات الأخرى.
أسباب الاختلاف:
ولا ريب أنه يصعب أن تحصى الأسباب الداعية إلى وجود الاختلاف في الأوساط البشرية، إلا أنه يمكن عرض جملة منها، ونركز غالباً على المناشئ الداعية لإبراز الاختلاف كعنصر سلبي في الوسط الاجتماعي:
منها: العوامل النفسية:
وهي تعني الانفعالات وردود الأفعال التي تصدر من الإنسان وتجعله يخرج عن التعامل بموضوعية لتأثره بنزعاته الداخلية، ومزاجه الشخصي، ما يجعل الإنسان يعيش حالة من الاختلاف المتكرر والمتجدد في معظم المواقف لمجرد أدنى احتكاك مع الآخرين.
وقد كان وجود هذه الحالة عند الإنسان سبباً لأن يعيش بين محذورين، إما كثرة اختلافاته مع الناس، ما قد يسبب لهم نفرة منه متى احتك معهم، أو أن يعيش وحيداً في داره بعيداً عن مجتمعه، ويصعب على الإنسان تطبيق الثاني، فيوجد منه الاختلاف مع الآخرين لأنه يعيش بينهم.
وربما فسر لنا هذا الطرح الإسلامي في ضرورة تهذيب النفس، ومعالجة النـزعات النفسية كالغضب، أو الحب الأعمى، أو الانفعال، فجاء عنهم(ع): حبك للشيء يعمي ويصم.وجاء عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: من لم يهذب نفسه لم ينتفع بالعقل.
ومنها: حب الذات:
ويعتبر من أهم الأسباب المؤدية لوجود الاختلاف، فإن أغلب الناس يعيشون من أجل ذواتهم، فلا يرضى أحدهم إلا بإرضاء أهوائه وتلبية رغباته، ومن المؤكد أن يكون لهذه الأهواء والرغبات دخالة في مشاكل مع الآخرين عندما يمتنعون عن تحقيق ما يريده، وتنفيذ ما يمليه عليهم، فيبدي الإنسان استعداده للمخاصمة والقطيعة، لأنه يعتقد أنهم يقفون في طريق تحقيق طموحاته وتوجهاته الخاصة.
وقد ذكر القرآن الكريم نماذج لمن سيطرة عليهم حب الذات فخلق لهم اختلافاً مع الآخرين، يقول سبحانه:- (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لايهدي القوم الظالمين).
ومنها: الجهل:
ولا ينكر أحد دوره في هذا الجانب، خصوصاً وأن الإنسان يجهل الكثير من الحقائق على اختلاف أنواعها، وهذا يكون باباً واسعاً للاختلاف مع الآخرين، لعدم قناعته بطريقة فهمهم للأمور، فيسلك درباً مخالفاً لما يسلكه الآخرون.
وكما يعتبر الجهل عنصراً لوجود الاختلاف في المجال الفكري، فإنه يكون كذلك في المجال العملي أيضاً، لأن جهل أحد عناصر العمل يؤدي إلى تأخير العمل، بل ربما تعطيله وربما كان هذا منشأ وصف أمير المؤمنين(ع)، بأنه أصل كل شر.
ومنها: النظرة المسبقة:
ويظهر هذا السبب في موارد الحياة المشتركة والتي تتكون من عدة أفراد، فإن وجود نظرة مسبقة عند شخص معين على أفراد هذه المجموعة، أو على بعض أفرادها يترك أثراً سلبياً على الأطروحات الفكرية التطويرية للمجموعة، بل غالباً ما تتعثر حركة السير لكثرة الاختلافات التي تنشب بين هذا الشخص مثلاً وذاك الذي قد حصر نظرته فيهم بناءاً على معرفة سابقة.
ومنها: التأثر بالتقليد:
ويعتبر هذا السبب من أحد أبرز الأسباب المتأصلة لهذه المشكلة، فقد وقفت الموروثات الفكرية من الآباء في طريق دعوة الأنبياء، ومنعت كثيراً من التطورات. ولا يعني هذا خطأ الفكر القديم بقول مطلق، ولزوم استبداله بفكر جديد حديث، بل إن لكل واحد من المنهجين والفكرين مجموعة من الإيجابيات يلزم ملاحظتها.
ومنها: فقدان التجربة:
فإنها قد توقع العديد من الناس في الاختلاف في الآخرين ظناً منهم أنهم يقفون في طريقهم ويحولون بينهم وبين ما يرغبون الوصول إليه، بينما يكون نظر الآخر أن هذا متهور في ما يقدم عليه، ومخطأ في ما يفعله، وهكذا.