كان الصدى حزينا بخلاف عادته! كانت ردهات – مستشفى رعاية المسنين – تستجيب لصوت الأم بخشوع، كلماتها قوية في عجز (حسبي الله عليك ونعم الوكيل …)، يلوذ الأبناء بزوجاتهم، يحثون الخطى سراعا، نحو الأبواب المغلقة، يستغشون ثيابهم وفي آذانهم وقر كي لا تصيبهم دعواتها وصداها الكئيب!
أن يلقي رجل أمه في رعاية المسنين .. هي فعلا لحظة موت حقيقي لكل شيء حي في داخل قلبه، يموت كل شيء وهو يعي موته، يراه ويبصره! يسرع الأبناء خشية الناس التي تراقب .. تحصي الدعوات الصارخة وهي تنصب على رؤوسهم في عاطفة مشبوبة تتعجل استجابة .. تنتظر عذابا قريبا يتخطف أيامهم يسرع إليهم، من حيث لا يحتسبون! حيث تؤول الأوهام بالأوهام، وتسرع الظنون بالظنون .. وتأتي دعوة حاملة الشهور التسعة! كريمة الرضاعات في عامين كاملين ربة العواطف في صغرهم بشغف ! حاملة الأشواق إليهم بعذوبة الري الزلال! غميرة الحب لهم، غميرة الخوف عليهم، كريمة اللفتات والدعوات .. والنيات .. والعطايا .. في نصب!
بين حبلها السري – وبين – دار رعاية المسنين – وهي في تمام وعيها، وتمام – دعواتها المكتملة التامة – تتنكر الذات من الذات، تكفر النطفة بحبلها السري، يتنكر القلب للأمومة في أعطافها .. وحضورها. وهي تتوهج جمالا وخيرا وطهرا كالشعاع!
المشهد هذا الذي لا ندري بمسالكه ولا بأسبابه، ولا بخاتمة هي أكثر قسوة مما كانت هي عليه! الأسئلة مغلفة في كراهية لذاتها، هذا منطق – العرف – الظالم – والجائز في آن! كيف يجوز لحامل حبلها السري أن يقيدها بحبل سرير من معدن في غرفة مغلقة في دار رعاية المسنين، تنتظر الموت! وتترقب رحمته بها، ويده الرحيمة التي تأذن بانقضاء كل المواقيت، وقت الوحدة، ووقت الوحشة، ووقت الشعور بالعقوق، ووقت الخذلان .. ووقت العجز الغالب!
أيها السادة! إن جوهر الفهم هو حقيقة الأشياء في ذاتها! وإن مشهد صراخ أم في ضراعة ألا تستودع دار المسنين .. يجعلنا أمام حقيقة غائرة في السوء .. وفي الموت .. وفي تمام النقص! فحتى النقص له تمام إذا اكتمل .. تم النقص كله .. في عقوق أمومة غميرة النظرات .. سافحة الدمع .. ضاجة الغيظ .. راجية الطلب .. بادية العطف .. داعية الله.. فهذا الابن الذي يتباعد كالعبد الذي أعتق فعق وأساء وطغى. داعية الله .. أن يخفف عليها، إن المصائب يمحو بعضها بعضا .. ويثقل بعضها فوق بعض! هي أم واحدة أعطت حبلها السري بأعطاف حنانها وحبها في وله .. فلما تمت عليه النعمة.. قيدها في سرير من معدن بارد بحبل من ليف خشن!
العقوق .. غريب العلل .. لأنه ليس له من علة غير موت القلب يبرره أو يتقبله.
الاقتصادية