مبدأ التعددية في الآراء

إن الله عز وجل عندما خلق الناس (مختلفين )لم يكن ذلك من أجل الصراع والتقاطع ، وإنما هو نوعٌ من الثراء البشري المكنون الذي اختزنه الله سبحانه وتعالى في البشر إلى يوم الدين فجاء البشر في كل جيل ( مختلفون )شكلاً وفكراً وقدراتٍ ومعطيات ٍ, ذكوراً وإناثاً رجالاً ونساءً.

والاختلاف ليس مشكلة لأنه أمر طبيعي

لكن كيف نجعل هذا الاختلاف حالة صحية في المجتمع لا أن يتحول إلى حالة مرضية نحتاج إلى أمرين :

١- علينا أن نؤمن بحرية الرأي كما أنني أتبنى رأيا معينا كذلك من حق الطرف الآخر أن يكون له رأيا مغايرا عن الرأي الذي أنا أتبناه بل وأحترم رأيه، ولا أسفه رأيه ،ولا أعتدي عليه لا ماديا ولا معنويا .

٢- لكي نرتقي بمجتمعنا على المستوى العلمي علينا أن نفتح الحوار لتتلاقح الأفكار ونرتقي بالمستوى العلمي ، ولقد كان رسول الله (ص) يخاطب المخالفين له كما صرح بذلك القرآن يقول لهم : (وإنَّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )

فديننا يدعو للحوار بشرط أن يكون الحوار مؤدبا وبالأساليب الحسنة التي نادى بها القران الكريم ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )

وقد يقو ل قائل إن صاحب الرأي الفلاني مختلف رأيه وخطير ، ونرى أنه ضال وعلينا أن نقابله بالغلظة والشدة لا بالتي هي أحسن وإنما بالتي هي أسوأ ليرتدع عن هذا الرأي ويرتدع عن هذا الفكر …

أقول: وهل يوجد هناك طغيان أعظم من فرعون في تكبره وطغيانه ؟! الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى ،وكان طاغية لا يسمع من أحد ،ولا يقبل الحوار قال الله تعالى يصف حال فرعون :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾غافر29. ومع ذلك الله تعالى يأمر موسى وهارون بقوله :﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) طه ٤٤

فالله تعالى يأمر نبيه أن يتحدث مع فرعون بالخطاب اللين واللطيف ، وبالتي هي أحسن فإذا كان الخطاب مع طاغية مشرك بالأسلوب اللين ، فمن باب أولى أن يكون الخطاب بين المسلمين والمؤمنين بالتي هي أحسن … ولماذا يأمره الله أن يتحدث معهم بالخطاب اللين ؟ (وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) لأن الخطاب اللين ينفذ إلى القلب ويجعله يتذكر ويخشى ويتأثر بهذا الأسلوب اللطيف الحسن، ولذلك كان أهم عامل لنجاح دعوة رسول الله (ص) هو عامل الأخلاق العالية والتعامل باللين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حولك فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ) ال عمران ١٥٩

ولو تحاورنا بالتي هي أحسن وتجادلنا بحوار علمي لكي نصل إلى نتيجة … إلا أن الطرف الآخر أصر على فكره ماذا نفعل ؟ هل يصح منا أن نخاطبهم بخطاب عنيف ؟! وأن نمارس معهم سلوك عدواني لأنه لم ينفع معهم الحوار … هنا علينا أن نقرأ سيرة أئمتنا (ع )ونترك الكلام النظري

فلنستعرض سيرتهم و نبدأ بسيرة أمير المؤمنين (ع) حينما استلم الخلافة (ع)

علما بأن الأمة لم تجتمع وتتفق على بيعة خليفة بحيث يطيعونه باختيارهم كما اتفقت الأمة على بيعة علي (ع) ،ولكن مع ذلك هناك أفراد في الأمة امتنعوا عن بيعة علي (ع) فالإمام كان بيده أن يجبرهم لأنه بيده السلطة وبيده القوة وهو الامام الشرعي المنصب من قبل الله تعالى الذي تجب عليهم طاعته ومع ذلك نلحظ بأن الامام لم يجبر أحدا على بيعته (ع)

وموقف آخر مع الخوارج الذين كفروا عليا (ع) ولكن الامام لم يحاربهم ولم يتعامل معهم بخشونة لأنهم كفروه فمتى حاربهم ؟ حاربهم صلوات الله عليه حينما أفسدوا في الأرض ، وكان يقول: (إن تكلموا حاججناهم)

وعندما نقرأ عن حياة حفيد أمير المؤمنين الإمام الصادق (ع) رئيس مذهبنا في زمنه كانت هناك نقلة فكرية عالية تميزت المدينة في ذلك الوقت بمدارس فكرية متعددة إلا أن مدرسة الصادق (ع) امتازت عن غيرها بالانفتاح على جميع التوجهات ،فلم يكن عند الصادق (ع )شرط بحيث يقول لا يحضر درسي إلا من يُؤْمِن بإمامتي ، بل كان يحضر درس الإمام من مختلف الطوائف الاسلامية.

وكان يستقبل أبا حنيفة ويستقبل مالك بل ويستقبل حتى الملاحدة كشاكر الديصاني وابن أبي العوجاء حيث كان يستقبلهم بكل احترام وإجلال يحاورهم ويجادلون بالتي هي أحسن حتى قال ابن المقفع : -وهو من زعماء الزنادقة – “إذا كان في المسلمين من يستحق اسم الانسانية فهو جعفر بن محمد الصادق (ع ) ”

ولذلك كان الإمام الصادق صلوات الله عليه يحث شيعته على أن لا يجعلوا حواجز بينهم وبين بقية الفرق الاسلامية ، وكان يحثهم على التواصل والاندماج مع الأمة إذ يقول :”اشهدوا جنائزهم وصلوا معهم وعودوا مرضاهم … لماذا ؟!

حتى تكونوا دعات بأخلاقكم وإيمانكم وإذا كان يدعو للوحدة ونبذ الخلاف مع عامة المسلمين فكيف مع الموالين ؟!

وإن وُجد اختلاف كبير بيننا ؟ ذلك وعلى مر التاريخ لأننا نؤمن بمدرسة أهل البيت أن باب الاجتهاد مفتوح ، فمن حق كل مجتهد أن يبدي رأيه إذا أعمل أدواته العلمية ويستنبط رأي يختص به ، لكننا تعودنا في الفقه يحصل التعدد في الآراء ،ولَم نتعود أن نسمع في العقائد تعدد آراء، ففي الطرح العقائدي اعتدنا سنوات نسمع طرحا واحدا ولو وجدنا عالما جاء برأي جديد طبيعي أن نتعجب ونقول هذا الرأي غريب ومخالف لمشهور العلماء ونقول هذا لم يقل به أحد من العلماء .

ونضرب أمثلة على الاختلاف في بعض الأمور الاعتقادية عند علمائنا كالشيخ الصدوق عليه الرحمة ألف كتابا بعنوان كتاب الاعتقادات يذكر فيه اعتقادات الإمامية، وجاء من بعده تلميذه الشيخ المفيد فرد على أستاذه بكتاب أسماه تصحيح الاعتقادات ،واختلف مع أستاذه في خمسة وأربعين مسألة عقائدية وجاء من بعده الشريف المرتضى ورد على أستاذه الشيخ المفيد واختلف معه في خمسة وتسعين مسألة عقائدية وفِي زماننا مرجع من المراجع العظام حفظهم الله وسددهم اسمه الشيخ لطف الله الصافي الكلبيكاني حفظه الله له كتاب محاكمة بين الصدوق والمفيد يستعرض رأي المفيد بأدلته ثم يرد عليه فتارة يؤيد رأي الصدوق ،وتارة يؤيد رأي المفيد وتارة أخرى يختلف معهما فيخرج برأي جديد، فالأختلاف إذاً موجود وهو حالة طبيعية وليس شيئا سلبيا، و إنما هو شيء إيجابي ، وعلامة على التطور عندنا ، لأن باب الاجتهاد مفتوح، والنظريات تتطور في الفقه والعقائد والفلسفة وفِي كل المجالات ، وهذا الاختلاف كان موجودا بين أصحاب الأئمة عليهم السلام ولم ينهوا شيعتهم عن الاختلاف بل هذبوا لهم الاختلاف وعلموهم آداب الأختلاف وكيف يختلفون ، ويبقى اختلافهم في حدود الأدب وحدود العلم حيث نهى الأئمة (ع) عن الخصومة في الدين فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع ):”لا يخاصم إلا رجل ليس له ورع ” أما الإنسان صاحب التقوى لا يخاصم في الدين لأن الدين لا يدعو إلى الخصومة بل يدعو إلى الألفة ، والى المحبة والمودة والاجتماع ، ولذلك يقول الكاظم(ع) لشيعته:( إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب وتكسب الضغينة وتستجيز الكذب )

فعندما تخاصم في الدين تستجيز في نفسك أن تكذب على الطرف المخالف لك وبالتالي يكون في القلوب عداء وحقد من طرف إلى الطرف الآخر

أيها الحبيب تذكر قول إمامة الصادق (ع) فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو اعلى منك …

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين …


error: المحتوي محمي