لماذا تدير ظهرك ؟

كثيرا ما نقف عند مقولة مشهورة تشير إلى ثقافة إبداء الرأي و عرض وجهة النظر ، مهما كانت فيها من مسافات تبتعد عن المشهور أو المتعارف ، ما دامت تعرض بأسلوب مهني يتوافر على البرهنة ، و يعتمد فيه صاحبه على مناقشة رصينة و نقد يخلو من السخرية و الانتقاص ، إنها مقولة : ( الاختلاف لا يفسد من الود قضية ) ، و لكن كل علامات العجب و الدهشة تعلونا من واقعنا الذي اتجه نحو الاحتراب الفكري و محاربة و إقصاء الآخر و نبذه لمجرد إبدائه لرأي معين ، فانحرفنا عن ساحة الحوار الهاديء و استعراض الفكرة المعينة ، و استعضنا عنها بثقافة العنف اللفظي و الاستهزاء بالآخر و الشخصنة ، و غدت بعض المجالس مشرحا للشخصيات و استقصاء الزلات و العيوب ، مما أدى إلى انحدار فكري لا نبالغ إن قلنا أنه بدرجة الخطورة ، فالإسفاف و الخواء إن عشعش في عقولنا أدى إلى تجميد لتنمية المدارك ، و تسعيرا للمشاحنات و التحزبات الفارغة و الممزقة للعلاقات الاجتماعية ، و هل وقود كل موجة تخض المجتمع و تعصف به إلا كلمة من هنا أو فكرة من هناك ؟!
لقد أمعن البعض في انتهاك جدارية الاحترام و ثقافة حقوق الغير ، دون مراعاة لأي ضوابط أو قيم تدعو لتنزيه أي مناخ ثقافي أو فكري من الإحن و اصطناع الكراهيات و تمزيق العلاقات الاجتماعية و خلق الفتن و الاصطفافات الموهومة ، فضاقت مساحات التواصل فضلا عن الحوارات الممتعة بسبب الأحادية الفكرية و تقزيم و تخطئة الآخرين ممن لم يتفق معه في فكرة أو رأي ، فعاد العمل اليوم على توسعة الشق و مساحة الخلافات و ردم كل محاولة لتقريب وجهات النظر ، فلا يخفى أن الأصوات الفارغة و العقول الخاوية و أصحاب النفوس المريضة لا يحيون إلا في وسط أدخنة الخلافات المتصاعدة ، و التي تعمي الأعين عن البحث العلمي و توسعة الحوارات و إتمامها في إطار مهني ؛ لتتجه القلوب نحو إحكام التجاهل و الكراهية.

نحتاج إلى تجديد الدعوة نحو عقلنة الكلمة و الخطاب و الموقف ، و تجنيبها كل عوامل التسعير و التسخين المتجه نحو إحداث تشنجات و توترات في العلاقات الاجتماعية ، و هذا التقارب و التعضيد لا يقوم على خنق الكلمة و تكميم الأفواه عن التعبير بما يخالج الفكر و الوجدان ، و لكنها دعوة صادقة لتضمين مبدأ احترام الآخر ليشمل وجهة نظره دون قمع فكري تجاهها ، و احترام مساحات التباين و التعامل معها بمبدأ الحوار و تداول الأفكار و نقدها إيجابيا.

المنهج التربوي و التعليمي في المدرسة و الأسرة يحتاج إلى تفعيل و هجران لدور التلقين ، فليكن لحرية إبداء الرأي و تفعيل جلسات الحوار كمفردة مهمة في تنمية شخصيات أبنائنا و بناتنا ، فمفهوم التطاول و التجاسر المنبوذ عند الأسر ، و الذي تطبقه على مجرد إبداء وجهة مخالفة أو غير مقبولة يسبب لهم كبتا و ضعفا في بنيتهم الثقافية و السلوكية ، و سيحول جهة تفكيرهم إلى الاختزال و التخفي بعدا عن تعنيف الأهل أو المعلم ، و الصحيح تربويا هو الاستماع لوجهات نظرهم و الإنصات لهم فذاك يكسبهم ثقة بالنفس ، و يمكن تسجيل أي ملاحظة أو نقد و إيصالها لهم في وسط نقاش هاديء .


error: المحتوي محمي