سر الكتابة

يولد الكاتب وتولد له مساحات بيضاء على ورق ، له أفكار يراودها المخاض ثم بجرة القلم تدب الروح فيها ، بعدها ستكون الكلمات هي الحياة المتباهية في عينيه .

المواقف الغابرة والخيالات القادمة ، والذكريات التي لا يكتفي لها أن تكون مجرد صور في أحضان البراويز ، اللحظات التي يأبى لها التلاشي في العدم ، كان لابد له أن يصبها في كأسه ويتجرع مذاقها على مضض ثم لاينتشي إلا حين يصيغ منها المواقف والعبر كما يشتهي ويحب ، ويهديها للورق ، وللقاريء حق التذوق ، ثم ستكفيه من الزهوة جرعة حين يرى كلماته وقد ذُيِّلَت باسمه وقرأها الناس ، وإن لم تقنعهم فكرته ، يبقى ذلك نصر بحد ذاته مؤزر.

حين كنت في السابعة من عمري أخبرتُ صديقاتي الصغيرات أن لأيام الأسبوع ألوانٌ في مخيلتي ، فلكل يوم لون خاص به ، لم يصدقنني ، رحتُ أرسم لهن مكعبات كتبتُ عليها أسماء أيام الأسبوع ثم لونتها ، استسخفن الفكرة ففضلتُ أن أكتب رسالة بنفسي إلى أيام الأسبوع في دفتري الصغير ، أخبره بأن له في عيني ألوان كألوان الطيف السبعة ، كنت أدرك أن الرسالة قد لاتصل للأيام فعلاً لكنني أحسست بأن صوتاً داخلي قد انتشر في الكون الواسع وأن فكرة قد اتخذت لها مكاناً في هذه الحياة وأنني أثبتُ لفكرتي أنها خلقت ولها حق الوجود ، وحين وقعت الرسالة بيد أمي كانت قد ابتهجت وامتلأت عينيها وهجاً ، من على إثر تلك الرسالة ملأت مساحاتي الصغيرة بالدفاتر ، راقت لي فكرة أن أكتب وراق لي صدر دفتري الصغير الرحب بأفكاري ومذ ذاك الحين وأنا أسأل نفسي ترى لماذا لابد أن نكتب ؟

لماذا يكتب الكاتب ؟ هل هي الصرخة التي يجيدها في اسماع الناس صوته ؟ أم هي الرغبة في الطغيان عند بسط أفكاره على نحو عنيف بالرؤية ناعم في الولوج إلى النفوس ، أم هي الكلمات تزاحم رأسه وتستفزه على مدى سنوات من عمره كلما أهملها عادت وحاربته بضراوة أكثر لتتسلطن على الورق ، فلايفتؤ يستسلم لها فيحبر قلمه مرات ويجف مرات ، أو يفرد أوراقه للكتابة مرات ثم يكرمشها مرات ، أم هو زهاء الروح إذ خرجت من قعرها هبة من هبات الله ، تسافر به أفكاره إلى مختلف العوالم ، وله أذن تسمع حكايا الناس على نحو مختلف ولا يستطيع إلا أن يكتب عن كل مايراه وعن كل مايثير قلمه وفكرته ، والأهم من ذلك كله أن كل كاتب وإن اختلفت أفكاره فهو يؤذن في الكون نفس النداء حين يحين وقت قلمه فيقول : استمعوا إلي انظروا للأمر بطريقتي غيروا آرائكم ، و إن تجاهل صوته الخفي فسيشعر وكأن المذاق الأشهى لنفسه في الحياة قد بدأ يتلاشى عن حواسه .

في مقالة قديمة نُشرت لأحد الكتاب المشهورين وضع فيها أربع دوافع عظيمة للكتابة ، وهي : الأنانية المطلقة بحيث يتم التحدث عنك أن يتم ذكرك بعد الوفاة وقد تنتقم من الكبار في طفولتك ، ثم الحماسة الجمالية وهي مسرّة تأثير وقع صوت على آخر في انضباط النثر الجيد ، ثم الدافع التاريخي أي الرغبة برؤية الأشياء كما هي بالعثور على الوقائع الحقيقية وحفظها من أجل الأجيال القادمة ، وآخرها الغرض السياسي حيث الرأي بأن الفن يجب أن لايتعلق بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي .

اعتدنا كقراء أو كتاب على التعاطي مع مخرجات الكتابة من قصة وقصيدة ورواية ومقالة ، وليس التعاطي مع العملية الكتابية نفسها بمساحاتها التي لاتحد فالكتابة طريق وعرة ووحيدة وربما قد تكون أسهل لو أطلع الكاتب على تجربة غيره واستلهم من خبرته ، إن النزعة التعبيرية الخلاقة تتمثل في الكتابة الإبداعية خصوصاً ، وأشكال الفن الأخرى عموماً، وهي أحد أكثر وجوهنا الإنسانية جمالاً وجدارة بالإحتفاء .

الكتابة هي هبة الله وسر النفس الدفين الذي لايزاح ثقله إلا بها ، لا يشترط أن تكتب عن نفسك أو سرك ومالاتستطيع البوح به ، فعلى إثر أقلام الكتاب كم لامست هذه الدنيا آلام المتعبين وصرخات الصامتين ، مشاعر الإنسان البكماء قد يقرؤها القاريء من البعد لايعرف بعضكما الآخر لكن تجده يقول : ما أصدق هذا القول وكم أصاب هذا القلم ، قيل أن أول ماخلق الله القلم وكم كان جديرا بهذه الأفضلية إن كان له الفعل في إعمال الفكر على العقول ونقل مالا يُسمع وما لا يُرى وتصويره كصورة حية يقرؤها القاريء بل ويعيشها ولاتغادر نفسه في حال راقت لذائقته .

إن شئت وإن شاءت أداتك ومحبرتك فاكتب عما ترى في الدنيا وأهلها ، أسمع صوتك للدنيا بعد رحيلك منها وإن كان بالنزر من الكلمات ممايفيد الناس ويستحق القراءة ، قيل : إذا أردت أن تحيا بعد موتك فافعل واحداً من اثنين : أكتب شيئاً يستحق أن يقرأ ، أو افعل شيئاً يستحق أن يكتب .


error: المحتوي محمي