لذة الإتـقان

ينصرف الذهن مباشرة حينما تخطر على بالنا كلمة اللذة ، إلى اللذات العزيزية الشهوانية المتعارفة ، من طعام وشراب وما شابه ، وهي لذات وقتية تنقضي بانقضاء وطرها وأجلها ، وهي في الأساس مشتركات ما بين مخلوقات الله عزّ وجلّ في الغالب الظاهر ، بعيدة عن إشباع العقل والقلب والروح ، والتي لا توفرها لها هذه اللذة بما يسمو بالإنسان سمو اليقين ، ويمارسها ممارسة الفطين ، ويعالجها معالجة المكين ، ويسبح فيها سباحة الواثقين . إن هذه اللذة ليست لذة ملموسة ، إنما هي لذات إحساس تلامس المشاعر ، وتخترق الوجدان ، وتنعش الدماء في العروق ، مفعمة بالسعادة ، وممتلئة بالرضا .

اللذة مثلها مثل جميع الصفات الفطرية الخلاقة ، والمظلومة المقهورة ، كالحب والعدل والجمال وغيرها ، والتي لا يراها الناس سوى من زوايا قاصرة ، فيقسون عليها حين تتهم بفقدان المثالية ، كما الحب حين يتهم بالقسوة أو العدل بالظلم أو الجمال بالقبح .

هذه الصفات صفات ثابتة ، ولكننا نحن اللذين نتغير ونغير من قناعاتنا حسب أهوائنا حال ما يجري علينا سلباً أو إيجاباً ، فنستقبح الحسن تارة ، ونستحسن القبيح تارة أخرى.

لننظر للعبادة مثلاً، كيف يلتذ بها الإنسان ، حين يؤديها بتوجه ، كيف تحلق به في خفة ملكوتية ، وكيف تصل به إلى درجة الإستغراق الروحي ، والإنقطاع القلبي ، فيغيب عن المكان والزمان ، ولا يشعر بما حوله غير لحظة الإنتهاء ، وهي لحظة العودة إلى عالمه الوجودي .

ولننظر إلى لذة الإخلاص في العمل ، ولذة الإيثار ، ولذة التضحية ، ولذة الكرم ، والصدق وغيرها ، لننظر إلى أي فعل وقول من تخصص وهواية ، كالرياضة والأدب بأنواعها ، وغيرها ، كيف أننا نستطيع أن نجعل منها فرصة لتذوق لذة الإتقان ، حين الإنغماس الكلي في أدائها الأداء المطلوب ، تماماً كما هو فرض الصلاة مثلاً ، إن نحن أخلصنا أديناهُ باتقان المتلذذين ، وإن تقاعسنا أديناه بتثآئب الكسالى المكرهين .

إن العمل المتقن هو نتيجة طبيعية لحالة عشق وصلت لدرجة الإبداع ، وكان لزاماً أن يلتقي مع النجاح الأكيد ، وينعكس على ما حوالينا من محيط ، فيلقى القبول ، سواء من البشر ، حيث التقدير والمجازاة ، أو فيما يتعلق بالله سبحان وتعالى ، حيث يعدُّ ذخراً وثواباً دنيا وآخرة . والخلود هو النقشة الأخيرة التي تطرز كل جهد مخلص ذاتي أو جماعي ، ولكل مجتهدٍ مخلصٍ لـذة ونصيب .


error: المحتوي محمي