«الأهازيج» نغم القطيف المفقود.. والدرورة: مرآة تعكس واقع جيل استلهمها من أسلافه

بعد دخول البترول في حياتنا، وبعد أن تعلقنا كثيراً بالتقنية، فقدنا الكثير من حياتنا، من جمال ماضينا، ذلك الماضي الذي يسكن خلف جدران بيوت القطيف العتيقة، والذي لايمكن أن تعيده إلى الذاكرة غير ملامح منزلٍ شارف أن يكون متهالكاً، أو رائحة بخور قديم تشبه رائحة بخور الجدات، أو ترنيمة أمٍ تهدهد طفلها بغية نومه؛ حتى تستيقظ تلك الذاكرة من سباتها تحاول استعادة تلك الأيام بما تحمل، لتسمع صوت تلك الأم وهي تترنم حسرة على غياب الماضي، ولربما كان ذلك الماضي مرتسماً -مجازاً- في صورة أهلها، وقد تكون قطيفها بمثابة العين -مجازاً أيضاً-، بقولها:
ياعيوني ياعيون وين أهلها غايبون
غايبون في أرض مكة
اليوم لو باچر يجون.

ثم أنها تسترجع الذكرى، في صورة شخوصاتٍ غادرت المكان، وماعادت متمثلةً فيه، لا تشبه هذا الوقت، ولا يمكنها حتى أن تكون جزءاً منه، تلك الشخوصات، في أهزوجتها هذه، هي عمتنا النخلة، تلك الشامخة التي كانت تنمو قديماً حتى في وسط المنزل:
يانخلة في حوينا لاح فيچ البسر
ومر عليچ اوليدي يا ادقيق الخصر
ويانخلة في حوينا وحملها حملين
ومر عليچ اوليدي
اللي مايهاب البين.

وتزداد حسرتها لنسمعها تردد:
صبحت ماصبحوا.. مسيت ما ردوا
عقارب السود من غيرانهم ردوا
وعقارب الرمل حينٍ يلدغ الواحد
عند المقابل صديق، وفي القفا جاحد
صبحك بالخير ياللي مشمل اورايح
ياسيسبان العقل ياعنبر الفايح.

ولم تكن لتصمت أهازيج القطيف لولا صمتنا نحن، أو لربما هي لم تصمت، لا في فرحها، ولا حزنها، ولا تهويدتها لطفلها، إلا أن صوتها غدا ضعيفاً جداً، ولا يتمكن من التقاط نغماته إلا من أصاخ السمع جيداً، ولكن .. يا ترى ما السر في غياب ذلك النغم الذي كان يطربنا من صوت أمٍ أو جدة، أو مزارعٍ منهمكٍ في تحدير نخلته، أو نهام قطع عرض البحر مصاحباً للنوخذة وصياديه ؟!!

الإجابة هنا تأتينا من المؤرخ الباحث علي الدرورة حيث أكد بأن تطور الحياة لعب دوراً في كثير من الأمور، مشيراً إلى أن جيل الغوص انتهى عصره وجيل البترول انتهى عصره أيضاً، ونحن الآن نعيش عصر التقنية، مضيفاً بأن كل جيل يعيش متطلبات عصره الذي يتماشى مع فكره وثقافته، ونلاحظ أن إنسان اليوم يميل إلى سماع الموال الشعبي ولكنه لايحفظه، ولا يحفظ أصول وفنون النهمة والخطفة ومبادئ الغوص وأناشيد الشونة، كما كان بحارة الماضي، وكذلك نساء اليوم يملن لسماع أغاني المرادح والمهوداة وغيرها من الفنون ولكنهن لايحفظن ذلك ولا يرددنه.

وإن كنا نسأل عن السر في غياب الأهزوجة فحريٌ بنا أن نسأل عن ماهيتها، وما تعريفها؟

يذكر الدرورة لـ“القطيف اليوم” بأن الهزج ضرب قديم في الأدب العربي، وهو في معظم معانيه يعني الغناء أو أناشيد الفرح، والتي عادة ماتعبر عن كوامن نفسية، وقد انتقل الهزج في معظم الأقطار العربية إلى الموروث الشعبي، إلا أنه في الخليج ظل مرتبطاً بالإنسان، حيث شهد تنوعاً فرضته طبيعة البيئة التي امتزجت فيها فنون البحر بفنون البيئة الزراعية وكذلك الصحراوية، هذا بالإضافة إلى الأهازيج الشعبية المتعلقة بالنواحي الأسرية.

وأضاف بأنه كباحث رصد الأهازيج في الخليج ودرسها بشكل موسع ومعمق، وذلك في كتابه “الأهازيج الشعبية في الخليج العربي”، والذي صدر عام 2000م، وكتابه الآخر “الأهازيج الشعبية عند بحارة الإمارات” في عام 2008م، بالإضافة إلى غيرها من الدراسات الفلكلورية.

وعن استخدامها يعتبر الدرورة الأهازيج مرآة تعكس الواقع لفترة جيل الغوص، والذي استلهم تلكم الأهازيج من أسلافه وبالتالي هي سجل للماضي البعيد، لما كان عند أسلافنا في العصور الخوالي، وتلك الأهازيج سجل حافل بالأغاني وما رافقها من رقصات شعبية تعكس ثقافة الإنسان على ضفاف الخليج.

ويضيف:” هذه السجلات للأهازيج إنما هي صورة الواقع عبر الهزج إلى المخيلة، وقد عكست لنا الأهازيج المصطلحات أو المفردات التي كانت شائعة في تلك الفترات الزمنية، ولا سيما المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية، ومنها المهن التقليدية والتي اندثرت تماماً في عصرنا”.

ويؤكد بأن حفظ وأرشفة ودراسة الأهازيج مطلب حضاري، فهي تنقل لنا صوراً ولوحات فنية عن الوضع الاجتماعي والذي كان سائداً في مدن الخليج الساحلية.

وقد يكون أغلبنا قد سمع تلك الترانيم على لسان واحدةٍ من نسوة محيطه، فقد كانت نغماً مصاحباً لهن في كثير من ساعات يومهن، إلا أن ذلك لا يمنع أن يشاطرهن الرجال في ذلك، حيث أن الهزج تنوع في المجتمع، فالنساء والأطفال لهم أهازيجهم الخاصة والمميزة، وهو ما تعارف عليه في الأهازيج ويتضمن ضروباً شتى من فنونها والذي يتناسب مع النساء، أما الرجال فطبيعة الحال تختلف لما كانوا يعيشونه من حياة خشنة في ظل جشوبة العيش في تلك الأزمنة ،حيث كان الرجل يردد الغناء والنهمة، وأغاني العمل سواءً في عرض البحر أو على اليابسة.

وتختلف الأهازيج في المناطق الساحلية في القطيف عن المناطق الزراعية وذلك بحسب ما ذكره الدورة، مشيراً إلى أن هناك فرق كبير بينها في البيئتين البحرية والزراعية في مناطق القطيف، وخاصة أهازيج العمل، فالهزج الذي يمارسه البحارة لايمكن أن يتداوله من يعمل في البساتين والمزارع، أما أهازيج الأطفال فهي لاتختلف في البيئتين، بمعنى أنها ذات قالب واحد وكل النصوص التي درسناها هي واحدة بل وماشابهة في النصوص إلى حد كبير.

من جانبٍ آخر، تحدثت “القطيف اليوم” للحاجة مدينة السيهاتي “أم سعيد”، حول ذلك الموروث الذي خفت صوته كثيراً في السنوات الأخيرة، بدأنا بسؤالنا لها حول ما إذا كانت مازالت تترنم بتلك الأهازيج في خلال يومها، أجابت الحاجة “أم سعيد” بأنها لم تتخلَ يوماً عن ذلك النغم، فهي مازالت تضع أحفادها في حجرها لتتلو الـ”هلولوه” باختلاف كلماتها عليهم كلما حاولت تنويمهم، ومنها:
هلو هلو هلوها
اومن الذهب ملوها
اثناعشر حبشية تخدم في بيت أبوها
البنية دللوها
وش مابغت اعطوها
اومن الذهب ملّوها.

أو:
ياحليلها ياحليل
ولدوا بها في الليل
حزة طلوع القمر
حزة طلوع سهيل.

ويستبشر قلب الحاجة أم سعيد برؤية أحد أحفادها، وهو يدخل عليها صباحاً، فتستقبله كما كانت تستقبل والده أو والدته، لتسمعها تصبح عليه بقولها:
صباحك صباحين
صباح الكحلة في العين
صباح الناس مرّة
وصباحك عشر وفنتين
صباحك الصباحي
والورد والتفاحِ
اونفرقة الرياحِ

و
صباحك صباحك
لولو البحر مسباحك
والبين ما يندلك
ولا يندل صباحك

وتستدرك في حديثها قائلة:” هذه الهلولوات والصباحات لا تختص بالأولاد فقط، فنحن نقلب آخرها بحسب من نناغيه إن كان ولداً أو بنتاً”، لنعقب على استدراكها بـ هل يعقل أنه في وقتكم لم يكن هناك فرق بين ابن أو ابنة؟!، تجيبنا: الغالبية كانت تسعد كثيراً بأنها أنجبت ولداً لا بنتاً ولكن ذلك لا يعني بأننا لا نفرح بالبنات، لا.. فكلٌ يحب “ضناه” دون جنسه، ولكن ذلك يجعلنا نتنافس في أهازيجنا خصوصاً مع زوجات “الحمي”، فإن كانت إحدانا أنجبت ابناً والأخرى بنتاً لابد أنكم ستسمعون هذا الحديث بينهما، تقول أم الولد:
بشرتني القابلة اوقالت اغلام
عسى ذيك القابلة تزور الإمام
بشرتني القابلة اوقالت صبي
عسى ذيك القابلة تزور النبي
بشرتني القابلة اوقالت بنية عسى ذيك القابلة تقرصها حية.
إلا أن المعنية بذلك الكلام ترد عليها بالتالي:
أم البنات تمشي وتبات
وين درب الصاغة يالمسعدات
..
ما أريد الولد بتي غناتي
وغاسلة ثوبي وغاسلة عباتي
ما أريد الولد ولو كان ملبّس
ولو خيله على البيبان ترفس
أريد بتي تحت راسي ترفع الحس
وتقول ياحبايب ماتت أمي..

إلا أن الغلبة تبقى أخيراً لأم الولد:
أم الولد صوتها يلالي
صوتها على النسوان عالي.

تقول “أم سعيد” حول تلك الأشعار التي تحفظها عن ظهر قلب، بأنها تمتلك ذلك المخزون من والدتها ووالدة زوجها رحمهما الله، ومن جاراتها اللاتي كنّ يكبرنها سناً، كما أنها تحفظ الكثير مما ليس له علاقة بيوميات الأبناء، وبعض مما تحفظ عبارة عن قصص قصيرة طريفة جداً، من أمثلتها بعض المشادات بين الضرتين، أو سلاطة لسان بعض الزوجات، إلا أنها فضلت على ألا تذكر لو جزءاً من ذلك، معللةً إلى أنه لا يمثل وضعها لذلك فإنها لا تكررها.

وختمت لنا ببعض نغمٍ، يحكي قصة عشق استبدلها الآخر دون أن يلتفت لمشاعر محبوبه، وكأن “أم سعيد” اختصرت واقع بعدنا عن كل ما يتعلق بتراثنا، حتى في أبسط الأشياء “الكلمات”، فما عدنا نتحدث بذات اللهجة العفوية السابقة، بل أن بعضنا ما عاد يفهم أغلب كلماتها، كما أننا وإن كنا نطرب بسماع ذلك الهزج العذب المنساب من حناجر الأقدمين إلا أننا نمر عليه مرور سائحٍ فتنه ما رأى، ثم ودعه على عجالة، وليتنا كذلك السائح ودعناه لأجل الوطن، بل أننا غادرنه إلى غربةٍ نظنها أكثر تحضراً ألا أنها لا تشبه الأصل فينا.

عافوك يادرب المحبين عافوك
اتعلقوا ابهوى غيرك وخلوك
لول إذا شفتهم في الدرب حييوك
والحين إذا شفتهم صدوا عنك وخلوك
لول إذا جيتهم قالوا حيّ من جانا
والحين إذا جيتهم قالوا البلا جانا
لول إذا جيتهم قاموا ركبوا لي القدر
والحين إذا جيتهم قاموا يطلبون العذر
لول إذا جيت فرشوا حصر وافراش
والحين إذا جيت قالوا هذي الأرض ببلاش
لول إذا جيت فرشوا لي محارمهم
والحين إذا جيت مدوا لي براطمهم.

وأخيراً، فإن حال القطيف يشبه لسان حال هذه الأم القائلة:
ربيت الاولاد واحسنت الربا فيهم
ربيت الاولاد على اللي تعب فيهم
ربيت الاولاد يوم اصباي وجنوني
لابالسلف سلفوا ولا بالدين دانوني.

* الصورة من رسم الفنان محمد السيهاتي


error: المحتوي محمي