النمو الاقتصادي المطرد، الذي اكتسب لون القلق السديمي، وأسهم في التغير الثقافي للإنسان، وكوَّن معادلات رقمية منتشية، أنتج أفرادا مستهلكين، انسحب النشاط من بيئتهم، لتتحول إلى ما يشبه ركود الماء، ونعرف أن ذلك الركود يوجهنا نحو الاضطرابات النفسية والجسدية.
كثرة الاستهلاك غير المقنن الذي ليس هدفه واضحاً، يخلق أفراداً مكتوفي الأيدي، مقيدين عن الابتكار والإنجاز، وخاملين محبطين، يشعرون بالضعف والفراغ حين لا يجدون ما يستهلكونه، ويختلف مفهوم النشاط من بيئة لأخرى، فالتأمل في الطبيعة وإطالة الجلوس لإفراغ الذهن من الأفكار السلبية يعتبر لدينا خمولاً، وحتى الجلوس لفترات طويلة للتأليف والكتابة قد يراه بعض الأشخاص خمولا، لكن التأمل والتأليف في ثقافات أخرى ينظر إليه على أنه نشاط فعلي وتنشيط للفكر والخيال.
لقد فُهم النشاط كتعبير عن قوة جسدية وإنتاجية، ولتصحيح ذلك المفهوم نحتاج إلى وقت طويل لقلب ما في الأذهان وتهيئتها لشيء غير متعارف عليه، كالنشاط الحيوي الذي يقدم ربحا، وإذا أمعنا النظر للفرد الخامل نجد انقطاعه عن المثابرة العملية والفكرية والتأملية، يغرقه في الملل الثقيل، وتستحوذ عليه الوحدة التي تولد لديه أمراضاً تنهش فكره وجسده، فيدمن الأقراص المهدئة أو الوجبات السريعة أو الخصام مع عائلته أو ممارسة الجنس أو وسائل الإعلام ممنياً نفسه نسيان الملل.
فالإشباع الفيزيولوجي لا يستبعد الملل الناجم من الخمول، استعمل السيكولوجي كارل بوبر «الوظيفة المفرحة»، ويقصد بهذه العبارة خلق التعبير عن الكفاءات الخاصة تكون بحد ذاتها الفرحة، فعندما يعبر الفرد عن القوى الرابضة بداخله وينفس عن مكنوناته، فإنه يعوض عن حاجته ويستهلك في حياته شيئا هادفا، فالنشاط الصحيح هو تطور ونمو الفرد على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
فالصناعة توفر ما هو فائض عن حاجة المستهلك، لكنها تسعى لذلك حينما تجد أفرادا غير واعين لاقتناء ضرورياتهم، إنما هدفهم حيازة المزيد، وأن ينافس الآخر بأنه يملك الأفضل بصرف مزيد من النقود واقتناء كثير من الكماليات، ورغم أن غالبية الأفراد في هذا النوع من النمط البيئي يمتلكون أكثر من حاجتهم، إلا أنهم يشعرون أنهم فقراء؛ لأنهم لا يسايرون كثافة البضائع المنتجة.
وهكذا يعتلي الملل نفوسهم ويشعرهم بالضعف الداخلي وعدم سيطرتهم على الاستحواذ والامتلاك، والحقد والحسد من أقرانهم الذين تمكنوا من مسايرة التصنيع السريع، فبعض الأفراد لا يقيم ذاته إلا بما يمتلكه وليس بماهيته، ولذلك يضرب الخمول في عصب الحياة العصرية للإنسان، ويمنحها مزيدا من الفتور والنمطية الباهتة التي لا تنسجم مع الطبيعة الفطرية للإنسان.
فهل تساءلنا مرة من المرات متى سنصل إلى الكفاية؟ وإلى أين يقودنا كل ذلك؟
الشرق