الوجوه، الملابس، حوارات العفو، موسيقى اللكنة.. كلُّ ذلك كان مضموماً في انطباع خاطف. كأنني في أحد مجالس سنابس السعودية، لا في بني جمرة البحرين. لم أدّخر الوقت للإفصاح عن هذا الإحساس. وحتى حين خرجنا؛ قلتُ لرفيقَي الرحلة: كأننا في القديح، حتى الربوة التي ترتفع بالبيوت في بني جمرة؛ تشبه الربوة التي ترفع البيوت في محيط “مسجد العبد الصالح” في القديح…!
لم تكن زيارة ديوانية الملا عطية الجمري مخططة. إنما ارتجلها السيد علي السادة في مهاتفة صديق له. ترك كبيرنا الأستاذ عبدالكريم الشيخ الخيار لنا. ولا خيار أمام إغراء اسم الملّا عطية الجمري (1337 ـ 1401هـ، 1899 ـ 1981م) الموجود في وجدان أجيال متعاقبة من سكّان المنطقة الخليجية، حتى بعد مضيّ 38 سنة على وفاته..!
في المجلس؛ يبدو التأثير الروحي للملّا الجمري مستمرّاً في محيطه الاجتماعي. ليس فيه أُبّهة مجالس الوجهاء، لكنه يُشعِرك بسحر الامتداد الودود في ترحاب أبنائه. كان “جعفر” و “عبدالكريم” معنيّين جداً بحركةِ تنقل في مساحة المجلس الصغير نسبياً. نقل طاولات الضيافة، عرض “الگَدُوعْ”، صبّ القهوة، توليف النقاش المرتجل على عفوية أبناء القرى الذي يُشبهوهننا، في القطيف..!
من سؤال جعفر “هل هذا خلاص..؟” بدأ الحديث. قال “نبتة سيف”، وأردف “تمر سعودي”. ثم مضى النقاش حول نخيل البحرين. كنتُ أريد الحديث عن صنف “المرزبان” الذي كانت البحرين شهيرةً به. ويبدو أن واقع نخيل البحرين لا يختلف عن واقع نخيل القطيف في تراجع الأعداد، واختفاء أصناف.
ثم لا أدري كيف انعطف الحديث من النخيل إلى إرث الملّا عطية غير المتداول من الشعر العامي في أهل البيت. قال إنه له شعراً فصيحاً، وأظنّه قال إن هناك كشكولاً أو كتاب مذكّرات. سيرة الملا عطية الجمري وشعره إرثٌ فلكلوريٌّ لم يُفصِح عن نفسه بعد كما ينبغي. ما ظهر منه تلقّفته منابر الخطباء وبثّته في شجن الناس جيلاً بعد جيل. لا أظنُّ أن خطيباً خليجياً لم يشحن صوته بمطولات من “الجمَرات الودية” ويشحن معه آلافاً مؤلّفة من جماهير “القراءة” الحسينية..!
ذلك حضورٌ مستمر لم يحظَ به أيُّ شاعرٍ عاميّ، ولا شاعرٌ فصيحٌ، في حواضر الشيعة من المنطقة الخليجية. ربما لم يُضارعه في ذلك إلا سلفه الأحسائي البحراني الملا علي بن فاير الذي توفي سنة 1904م، 1322هـ.
في الزورة المُخفّة بعد مغرب أمس؛ كان الملّا عطية الجمري حاضراً بروحٍ أخّاذة في ملامح رواد المجلس. ثمة امتداد للرجل. ثمة نبضٌ، ثمة إشارات يفسّرها احتفاء تلقائي ومستمرٌّ.
الأستاذ عبدالكريم الشيخ،
كاتب السطور
عبدالكريم بن الملا عطية إلى جانب الشيخ هاني البناي.
بني جمرة، مملكة البحرين. السبت 25 نوفمبر تشرين الثاني 2017.