
لم يدر في ذهن الفوتوغرافي فيصل هجول أن واحداً من نهارات فبراير 2015، سيحوله إلى “مطاردٍ” لطائر البوم، وراصدٍ لأكثر من نصف أنواعها في شبه الجزيرة العربية، بعد أن قضى مايقارب من خمس سنوات في متابعة وتوثيق الطيور.. نعم طائر البوم نهاراً على غير العادة !
ستة من أصل عشرة!
البداية هنا من حيث انتهى هجول، فقد استطاع ذلك الفوتوغرافي وعضو مجموعة رصد وحماية الطيور بالمنطقة الشرقية أن يرصد ستة أنواع للبوم في شبه الجزيرة العربية، وذلك من أصل عشرة أنواع فيها.
وعن تلك الأنواع، قال:” بدايةً نذكر بأن طائر البوم هو أحد رتب طائفة الطيور ومنها عائلتان، ينحدر منهما ستة وعشرون جنساً، ينحدر منهم قرابة 234 نوعاً منتشراً حول العالم، وبالرغم من وجود هذا العدد الهائل للبوم إلا أن شبه الجزيرة تحظى بعدد بسيط مابين مقيم ومهاجر أو عابر، وهي عشرة أنواع: بومة المخازن، البومة الفرعونية، بومة الأشجار المخططة، البومة قصيرة الأذن، البومة الصغيرة، البومة طويلة الأذن، بومة الأشجار الأوروبية، البومة النسارية، وبومة الأشجار العربية، وبومة بتلر .
وقد تمكن من رصد ستة أنواع، هي: بومة المخازن، البومة الفرعونية، بومة الأشجار المخططة، البومة قصيرة الأذن، البومة الصغيرة، بومة الأشجار الأوروبية، بومة الأشجار المخططة.
وبين في حديثه لـ “القطيف اليوم” بأن تلك الأنواع الستة تم توثيقها في منطقة القطيف، إلا أنه استطاع توثيق خمسة أنواع فقط ضمن نطاق المنطقة، باستثناء البومة الصغيرة التي لم يوفق في تصويرها إلا في جنوب المملكة بمدينة أبها، بالرغم من تسجيل وجودها في القطيف.
وأضاف:” الأربعة أنواع المتبقية قد أوفق في تصويرها رغم صعوبة ذلك، فبومة الأشجار العربية والبومة النسارية العربية، بالإمكان الوصول لهما في مناطقهما الجغرافية، كما أن لي نية لزيارة عمان لتصويرهم قريباً، أما البومة طويلة الأذن فهي طارئة، ويحتاج تصويرها إلى توفيق وحظ كبير ؛ لكون خط هجرتها الرئيسي ليس على مسار شبه الجزيرة العربية، أما بومة بتلر فالمعلومات عنها قليلة وتحتاج جهد كبير من البحث والمتابعة والتوفيق أيضاً، إلا أن الشغف كفيل بتحقيق ذلك”.
هنا يولد سؤال، أين كانت البداية حقاً وكيف كانت ؟!
صدفة.. بداية الرحلة لم تكن بحثاً..
إنه اليوم الـ 25 من شهر فبراير من عام 2015، الوقت كان نهاراً، وهو الوقت الذي يصعب فيه رؤية البوم كون نشاطه ليلي، فالليل لديه مخصص للصيد والطعام والنهار للنوم والراحة، وعلى بعد 60 كيلومتراً من منزل الراصد فيصل هجول، والواقع في بلدة الجارودية بمحافظة القطيف، تحقق حلمه في رصد بومة، على الرغم من أنه قضى ما يقرب من خمس سنوات متابعاً وموثقاً للطيور، إلا أن مشاهدة بومة خلال وقت النهار كان الحلم الكبير بالنسبة له، فلطالما كان يشاهد البوم ليلاً ويتوق لأن يحظى بفرصة رؤيته خلال النهار.
الفرح محفوفٌ بالحذر
حين قادته الصدفة لأن يلمح حلمه “البوم” نهاراً، لم يجعله فرحه ينسى حذره فقد كان يرقبها من مسافة بعيدة جداً بقرابة المائتي متر بينه وبينها، حيث ألزمته سياسته في المراقبة ألا يقترب أكثر، يقول:” مجمل ما استطعت التأكد منه حينها أنه طائر البوم، ولم أجزم أي الأنواع كانت من البوم. بعد لحظات طارت ومكثت من جديد، فلاحظت تواجدها أسفل تكوين صخري، لأتيقن بأن هذا المكان اتخذته عشاً لها، وهذا يعني أن فرصة تواجدها هنا كبير جداً ومشجع لمتابعتي المستمرة في الأيام القادمة”.
ملامح “النسارية” و أربعة صغار !
عاد الفضول بهجول في اليوم التالي ليأخذ لمحة ولو بسيطة عن غنيمته، اقترب منها من مسافة أقل بقليل عن اليوم الأول، وتمكن من أخذ أول صورة لها، وعلى الرغم من كون تلك اللقطة بعيدة وغير واضحة بشكل كافٍ، إلا أنها كانت كفيلة بالجزم بأن البومة هي البومة النسارية.
ولم يكن الحظ حليفه في التقاط صورة لها وحسب، بل أنه أهداه مفاجأة أخرى، حين لاحظ شيئاً من بعيد، بعد مغادرة البومة للعش، ولم يكن يتصور أن ذلك الشيء هو البيضة الأولى، يقول:” لقد وفقت لأكون شاهداً على رؤية أولى بيضات هذه البومة في يوم 26 فبراير 2015م، وبعدما كان الحلم فقط مشاهدة وتصوير لقطة عابرة لطائر البومة، أصبح الهدف والغاية بعد البيضة الأولى أن أوثق وأتابع حياة هذا الطائر عن كثب، وأتابع البيض حتى التفريخ والطيران، وتوالت الزيارات بشكل يومي لأدون كل جديد وبعد أربعة أيام تباعاً من أول بيضة اكتمل عدد البيض في اليوم الثاني من شهر مارس، ليصبح أربع بيضات”.
خدع للاقتراب واكتشاف الذكر !
بعد أن التقط لتلك البومة بعض الصور، زاد شغفه بها، وكان لابد له من أن يقترب منها أكثر ليخرج بنتائج أفضل، وأيضاً ليتمكن من ملاحظة أسلوبها بشكل أوضح، لذلك وطوال الأسبوع الأول اتخذ أساليب عديدة للاقتراب أكثر، كارتداء ذات الملابس في كل زيارة لتألف وتعتاد وجوده ، كما التزم الهدوء وقلة الحركة وتقليل المسافة بشكل تدريجي في كل يوم بمقدار معين، كما اتخذ الزحف والتحرك جالساً بغرض إعطاء الإحساس بصغر الحجم وعدم الإخافة قدر الإمكان.
من جانبٍ آخر، بحث الفوتوغرافي هجول كثيراً عن ذكر البومة، حتى تمكن من مشاهدته على مسافة خمسمائة متر من العش، كان واقفاً على نخلة هناك، إلا أنه أكثر حذراً من الأنثى وأصغر حجماً، وكان يتواجد في ذات المكان في كل مرة خلال فترة احتضان الأنثى للبيض.
هل سيفقس البيض؟
يذكر هجول بأنه قد راودته مخاوف كثيرة بعدم تفقيس البيض، خصوصاً في ذلك الشهر وهو شهر مارس الذي شهد تقلبات جوية كبيرة، فالأمطار الغزيرة التي هطلت على المنطقة في بعض الأيام والعواصف الترابية والغبار الشديد كلها كانت تعتبر تهديداً حقيقياً لسلامة بيض البوم، كما أن التحديات بالنسبة للأم كانت كبيرة عند الخروج من العش، حيث توجد الغربان بأعداد كبيرة قريبة من العش واستمرار مهاجمتهم للأم كلما خرجت من عشها بعد مجيئه لها!
يضيف:” فكرت في تقليل عدد الزيارات ليحظى البيض بفرصة نجاة أكبر خصوصاً وأن زياراتي لها تجبرها على الخروج في بعض الأحيان”.
حتى كانت المفاجأة في اليوم الرابع من الشهر الرابع الميلادي، فقس أول البيوض ليخرج الصغير مغمض العينين يكتسيه الزغب الأبيض بالكامل وبجانبه وجبته التي وفرها له الوالد منذ الليل عبارة عن فأرة صغيرة، ليلحقه أخوه الأصغر بعد يومين، بينما البيضتان الأخريتان قدر لهما أن تظلا دون تفقيس!
صداقة .. إلى أين ستنتهي؟!
بعد أن فقس البيض كان قد مر على متابعته للبوم أكثر من شهر مما عمق الصداقة بشكل كبير بينه وبين الأم، حيث وصل به الحال لدرجة الجلوس جنباً لجنب، بل ولمسها والمسح على رأسها ومداعبتها بكل ألفة ولم تمانع حتى في معاينة أبنيها الاثنين وأخذهما منها ليلتقط معهما “سلفي”!!
ولم يعلم السر الحقيقي لهذه الألفة الكبيرة وعدم مغادرة الأم لعشها وقت تواجده نهائياً، هل فعلاً نجح في توفير الأمان لها فباتت لا تخشى الخوف على صغارها! أم أن غريزة الأمومة أبقتها بجانب أطفالها حتى مع احتمالية تشكيله خطراً عليها!
ومع ذلك يرجح هجول السبب في عدم مغادرتها لألفتها له أكثر، حيث لاحظ تغير سلوكها عند اصطحابه لأحد الأصدقاء، وخروجها من العش.
اختفاء بعد خمسة وعشرين يوماً !
بدأ هجول يعتاد وجود البوم وصغيريها في حياته، حتى أصبح مكان استيطانهم مقصداً له ليس لرصدهم فقط، بل لأن علاقته بهم توطدت، فقد يتخذ الإنسان له صديقاً من غير جنسه، سيما وإن كان من المخلوقات التي يأنسها، ولكن ماحدث بعد مرور خمسة وعشرين يوماً من تفقيس البيض كان مفاجأة جديدة في حكايته معهم.
يروي لنا ذلك:” أول يوم من شهر مايو اختفى الصغيران، حيث كانت آخر مشاهدة لهما في نهاية شهر أبريل، كان يوماً حزيناً جداً بالنسبة لي، بحثت عنهما في كل مكان إلا أنني لم أجد سوى الأم، وهي تصدر أصواتاً حزينة وكأنها تنوح على فقدهما، حينها تيقنت من أن أحد الصيادين قد انتزعهما من أبويهم، وهذا ما يحدث مع الأسف لغالبية الأعشاش التي تقع عين البشر عليها، وكان ذلك يوم الجمعة، فاحتملت رؤيتهما يوم السبت صباحاً، وهو الوقت المحدد لسوق الطيور بالمنطقة، إلا أن آمالي خابت؛ بعدم رؤيتي لهما في السوق”.
ويتابع:” شعرت يومها بأن الشهرين الذين قضاهما الأبوان احتضاناً ورعاية ذهبا هباءً منثوراً، عاودت الرجوع بعد ذلك علّي ألقاهما ولكن الحال كما كان ولا جديد”.
أملٌ ولقاء
ويضيف: “في السادس من يونيو عاودت الرجوع ببصيص أمل في أن ألقى الأبوين في نفس المكان، وحينها كانت المفاجأة برؤية الأبوين والصغيرين معهما، مكتملي الريش متمكنين من الطيران بصحبة أبويهما بكل سلاسة !!
لم أجد تفسيراً لوجودهما سوى أن من انتزعهما قد حنّ قلبه وأعادهما مجدداً.
ومهما كان السبب لوجودهما مرة أخرى فلا شيء كان أجمل من رؤيتي لهما مجدداً، فمن المعلوم أن هذا النوع من البوم لا يبتعد كثيراً عن منطقة الأبوين ويبقى قريباً، ولذا فإن فرصتي في متابعة المشوار متاحة وبشكل أجمل”.
هل انتهت الحكاية ؟
لا، بل ابتدت .. قضى الفوتوغرافي فيصل هجول مايقارب من ثلاث سنوات، في رصد البومة النسارية، والتقط لها عدداً ليس بقليل من الصور، ومازال يفعل، حتى ارتبط اسمه في المنطقة بحكايته الفريدة في مراقبة طائرٍ ظنه البعض فألاً سيئاً، إلا أن رفقة “خدوج” وهو الاسم الذي أطلقه عليها صديقه المصور حسين الفريد، جعل منه راصداً متمكناً لهذا النوع من الطيور، متابعاً له في هجرته واستيطانه، ليس هذا فحسب.
“خدوج” تدخل عالم الشهرة
بعد مئات الأيام من الصحبة التي أنجبت صوراً لا تحصى لتلك النسارية، تم اختيار صورة لها قبل عام في موقع ومجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية، ومن ثم ظهرت على صفحات صحيفة The Daily Telegraph، وبعدها على صفحات كتاب مصوري الطيور لعام 2016، والمعنون بـ Bird photographer of the year، كما تم عرضها كأفضل صورة على صفحة الحياة البرية لموقع ناشيونال جيوغرافيك، واختيارها من قبل محررين صفحة قناة ديسكفري اتش دي الشهيرة والخاصة بأعداد برامج حياة البرية، وغيرها الكثير من الصفحات الخاصة بحسابات المؤسسات والمنظمات المهتمة بالحياة البرية ومتابعتها، وعلاوةً على ذلك فالموقع الشهير والمختص بطائر البوم THE OWL PAGES مازال يستعين بصور خدَوج للتعريف بالبومة الفرعونية، وأخيراً تصدرت إحدى صورها لموقع ناشيونال جيوغرافيك DAILY DOZEN الشهير، والمعني باختيارات المحررين.