يرغب بعض البشر بالتغيير عن النمط اليومي المعتاد في حياتهم، لكن أغلبهم لا يعرف كيف ينتقل نقلة مختلفة أو الحد الأقصى تجاوزها، وبالتالي نجد أن تلك الانجازات أو المشاريع القائمة لم تتخطى التكرار السائد في المجتمع، وقد يحاول أفراد آخرون أن يوجدوا نمطا مختلفا ومميزا في مجال عملهم لكن تصدهم تقليدية المجتمع، وعدم الرغبة لتجاوز المعتاد، لذلك سيفقد الكثير من تلك الانجازات أو المشاريع جاذبيتها مع الوقت، أو القائم على المشروع أو المنجز لا يحمل فكرا إبداعيا إنما تقليديا.
مثال ذلك، يملك بعض الأفراد ميزانية مقتدرة، لانجاز مشروع ما، لكن لا توجد فكرة مبتكرة أو تخطيط إبداعي لتحقيق ذلك المشروع، والنتيجة الحتمية هو عدم الإقبال عليه من قبل الناس لأنه تكرر وتوفر بشكل متزايد و النهاية المترتبة الخسارة المادية والمعنوية، هذا في مجال التجاري، أو توجد الفكرة الإبداعية لكن لا توجد الجرأة لانجازها خوفا من ردة فعل المجتمع المعتاد على صنف معين وخشية الخسارة المحتملة.
بعد تلك الخسارة من المؤسف أن لا نبحث عن السبب رغم توفر الميزانية المادية والقدرة الجسدية لتحقيق أي مشروع، ونتوقف عن الاستمرارية وننظر للأمور بسوداوية، بحيث ينتحب البعض مما جرى عليه ويفقد الحماس المتوقد، ويُصِّر على عدم الخوض في التجربة بعد الأولى، غافلا عن أن كل مشروع أو عمل يتطلب الإبداع والإقدام والجرأة، لذلك نجد قبل افتتاح أي مشروع يمر بعدة مراحل ومنها أهمها الفكرة الإبداعية التي تتطلب أفرادا يتخطون ليس فقط المشكلة إنما التقليدية المجتمعية بجرأة وحنكة.
أغلب المبدعين قبل أن يصبحوا معروفين على الصعيد الأدبي أو الفني أو التجاري، تجبرهم الصعاب الحياتية أن ينخرطوا في التحديات وقد تكون تلك المحن شخصية جدا، كالرسام الأمريكي تشاك كلوز الذي واجهه صعوبات التعلم في طفولته، والشاعر الأمريكي دونالد هول الذي أمضى سنته في رعاية زوجته المريضة حتى وافاها الأجل، ورغم تلك الصعوبات التي نالت منهم، فإن رسالتهم للعالم ليست سوداوية قاتمة، وبدلا من ذلك، أطلقوا العنان لقصصهم بمرح وتواضع لتخطي المحن والبقاء على قيد الحياة.
لم تكن معاناة الرسام كلوز في الطفولة فقط إنما في عمر الثامنة والأربعين أصيب بتمدد نادر جدا في الأوعية الدموية في العمود الفقري، وفي غضون ساعات أصبح مشلولا من الرقبة حتى أخمص القدمين، مما استغرقه الأمر شهور عدة من إعادة التأهيل حتى يتمكن من الجلوس على كرسي متحرك، ولأنه كان مصمما أن يعاود الرسم بأسرع ما استطاع، تناول الفرشاة بأسنانه، وبعد ذلك، اكتسب بعض الحركة في ذراعيه فربط الفرشاة إلى معصمه وأمسك بها بالساعدين وبدأ يرسم، وهذه نقلة من حالة إلى حالة أخرى مع مزيدا من التحدي والإصرار والإبداع.
كما أن الشاعر هول أصيب ثلثا كبده بمرض السرطان، مما احتمل وفاته قريبا، وكانت زوجته تشاطره قبل أن تسبقه في الوفاة آلامه، وقد كتبت فيه قصائد رثاء تذكاريه له، لكن المفارقة أنها أصيبت بالمرض وفارقت الحياة مما جعله يكتب قصائد تحرق القلوب لحاجته أن يخمد الحزن الذي نال منه، لم تعجزه محنه عن الانجاز الأدبي ووصف الكثير من الذكريات لزوجته الحبيبة.
لم تكتنف انجازات الرسام كلوز والشاعر هول التقليدية، إنما كانت الفكرة الإبداعية تأخذ حيزا في أعمالهم التي جذبت المتابعين، وليس بالضرورة أن تتوفر تلك القابلية المرنة لدى المتابعين في المجتمعات الأخرى، لأن الاختلاف الثقافي وارد، فبعض المجتمعات عقلية أفرادها صعبة أي غير مهيأة لاستقبال الجديد، فلا يحصل أي تطور من نواحي عدة و تبقى الأمور كما هي.
و أبسط مثال الاعتياد على قراءة صنف من الكتب، والبقاء على نفس القالب أو عدم القدرة على تقبل الاختلاف في منهجية السرد وتطويرها، فمن المتوقع أن القاريء التقليدي سيقبل على قراءة السيرة الذاتية” أشياء كنت ساكتة عنها” سيثني عليها لأن السيرة اعتيادية ووفق الرائج، لكن حين يقرأ السيرة الذاتية” خطاب اليدين” ستتغير النكهة المعتادة، لتجاوزها التقليدية ونقلتها الإبداعية التي تكشف للقاريء الكثير مما غاب من الأفكار العلمية والفلسفية والفنية، بعضهم يجدها تجاوزات عن منهجية السيرة، لكن الإبداع يتخطى ذلك المفهوم في الإنجازات الأدبية التي لا تتقيد بقوانين معينة، إنما من خلالها تفتق براعم نضرة.
فهل يمكن للمجتمع أن يتخطى التقليدية؟ ويبدأ بعملية التدوير لأفكاره ورؤاه، حتى يرتقي ويتطور وفق متطلبات الحياتية المستجدة، أما يبقى في براثين التقليدية الجامدة! فالبعض يجد التقليدية القائمة على الجهل والتخلف، عراقة. وهناك فرق كبير بين التقليدية والعراقة.