لماذا يعاني مجتمعنا من الأمراض النفسية؟

يبدو أن الكتابة عن ملف خطير وحسّاس كالأمراض النفسية في المجتمع السعودي، قضية في غاية التعقيد والالتباس، فضلاً عن تأثيرها المباشر على عقل ومزاج كاتبها، وأعترف أنني ومنذ ثلاثة أسابيع أعاني نفسياً نتيجة بحثي وتنقيبي ومقاربتي لهذا الملف المثير.

ومحاولة رصد الأسباب الرئيسة للأمراض النفسية – فضلاً عن الأسباب المتفرعة منها – أشبه بمحاولة حالمة لعدّ نجوم سماء صافية أو الحصول على قطرة ماء في صحارى السراب.

وبشيء من الاختصار والاختزال، سأضع الأسباب الرئيسة للأمراض النفسية، وذلك لنقترب قليلاً من هذه الظاهرة الخطيرة التي تحضر بقوة في تفاصيل حياتنا. وتؤكد التقارير والدراسات والأبحاث العالمية المرموقة، بأن هناك أكثر من نصف مليار من سكان العالم مصابون بأمراض نفسية حقيقية، لا مجرد أعراض نفسية مختلفة والتي لا يكاد يخلو منها أحد على سطح هذا الكوكب المثير.

ويمكن تقسيم الأسباب الرئيسة للأمراض النفسية إلى خمسة عوامل محددة وهي، وراثية وعضوية وفكرية وجسدية وعائلية. وتندرج تحت هذه العوامل الرئيسية الكثير من الأسباب المتفرعة والمشتقة والتي تتزايد بوتيرة مفزعة تكاد لا تقف.

بالنسبة لكاتب مثلي، غير متخصص في هذا المجال المعقد الذي يتطلب قدراً كبيراً من التخصص والتجربة والممارسة، أجدني مضطراً للقفز فوق كل تلك العوامل التي يمكن تشخيصها وعلاجها إكلينيكياً ونفسياً، وأركز فقط في الأسباب الاجتماعية والثقافية والفكرية التي قد تؤثر بشكل كبير في تنامي هذه الظواهر/ الأمراض النفسية التي تهدد سلامة واستقرار وتنمية المجتمع السعودي.

تُمثّل ضغوطات الحياة بمختلف أشكالها ومستوياتها مدخلاً واسعاً لظهور وبروز هذه الأمراض النفسية، كافتقارنا لبيئات العمل الصحية التي تُشجع على الإنجاز والإبداع والتي تحولت للأسف الشديد إلى تجمعات قلقة وخائفة ومتسخطة، وغياب ثقافة الحوار والتسامح والاختلاف وقبول الآخر بين مختلف أفراد ومكونات ونخب المجتمع، وندرة مصادر الفرح والبهجة والتسلية والترفيه في مجتمع هو أقرب للتصحر الاجتماعي، وتنامي حالات البطالة والفقر والغلاء والطلاق والإدمان والانتحار والتنمر والتحرش، والتفكير المستمر في المستقبل بكل ما يحمله من آفاق مجهولة وحسابات معقدة، والشعور القاتل بعدم القدرة على القيام بمتطلبات وأعباء الأسرة وتوفير الحياة الكريمة لأفرادها، والترقب المخيف للمسؤوليات والأعباء والزيادات والاستحقاقات التي أصبحت أشبه بكوابيس مقيمة، وتراجع الوعي الفكري والثقافي والإنساني والأخلاقي وسط تغول مظاهر التشدد والتزمت والإنغلاق التي تُسيطر على الكثير من مكونات وتعبيرات المجتمع، والاستخدام السلبي لوسائل ووسائط وشبكات الإنترنت والتقنية والاتصال والتي تحولت إلى ساحات وفضاءات لبث الكراهية والطائفية والأزمات، وغياب طرق التربية الحديثة والمناسبة والمتسامحة لأطفالنا وشبابنا الذين يمثلون الأغلبية الساحقة لسكان الوطن، وعدم وجود خطط واستراتيجيات حقيقية وواضحة لمقاربة هذا الملف الخطير الذي يهدد حياتنا ومستقبل وطننا.

تفشي الأمراض النفسية في مجتمعنا، ناقوس خطر يدق في رغبتنا الملحة لتحقيق رؤيتنا الطموحة التي بدأت بعض ملامحها بالتشكل، لذا فقد حان الوقت الآن لمواجهة حقيقية لهذا الملف الخطير الذي يتهدد أمن وسلامة واستقرار وازدهار وطننا، لا أن نكتفي ببعض المهدئات والمسكنات.


error: المحتوي محمي