بث الطفوف

صفحة مشرقة من التاريخ البشري و أنصعها هي التي قدمتها النهضة الحسينية ، فلم تكن بالحدث العابر الذي يمكن اختزاله في بقعة معينة و زمان غابر ، بل هي من القيم المحركة للكمال و الرقي في صياغة الشخصية الإنسانية وفق مبدأ الكرامة و الحرية و العمل المثابر و قهر الظروف الصعبة ، هذه القيم الراقية التي تتضمنها هذه النهضة الرسالية تحفظها و تصونها النفوس الأبية و السائرة على نهج الإباء و التضحية ، و أي تقصير في التفاعل معها و تحويلها إلى منهج حياة و سلوكيات متجسدة ، فإن ذلك يعني وجود خلل في فهمنا و اتباعنا للنهج الحسيني الخالد ، قبس الهدى للعقول النيرة .

الصوت الحسيني الهادر تضمن مفردة مهمة في القيم الإنسانية ألا و هي الحرية ، فحياة الإذلال و العبودية و تكبيل الإرادة عن الاختيار ، لا تناسب و لا تليق بالإنسان الذي كرمه الباري بالعقل و حرية التفكير و البحث عن الحقائق و التخندق حول القناعات المنطقية ، فمن خالف ذلك و رضي بالعيش الخسيس الذليل الذي يشابه حياة البهائم ، و التي تعني رضاه باسترخاصه و معاملته كالعبد مقابل حفنة من المال .

الإمام الحسين (ع) صرخته المدوية تدعو للتمسك بالحرية مهما كلف الأمر من أثمان ، فالحفاظ على الموقف و التمسك بالكلمة الصادقة لا يمكن مضاهاته بشيء و لا يعرض في مزادات شراء الذمم ، فمن تمسك بإنسانيته لا يقبل بالتخلي عن مبدئيته مهما كانت الظروف ، و هل يمكن أن تمر من الظروف صعوبة و قاهرية كالتي واجهها أبو الأحرار (ع) ، حيث تكالبت عليه الأعداء من كل جهة ؛ طلبا لخنق صوت الحرية و العدالة و المناوئة للظلم و العدوان ، و لكن الصوت الحسيني بقي مجلجلا في فضاء الحرية ، و أبى الخضوع للابتزاز و محاولة إسكات نهج الحق تمسكا بالحق .

و انظر إلى قيمة السلام و تجنب إراقة الدماء و الدعوة إلى نبذ العنف و التي تميزت بها النهضة الحسينية ، إذ سعى الإمام الحسين إلى مجانبة القتال و دعوة الناس بالتي هي أحسن من الخطاب الفصل و الحكيم ، فلم يبدأ القوم بالقتال أبدا و ما كان قتاله لهم إلا دفاعا عن النفس و الحرم في حرب فرضت عليهم فرضا و قهرا ، فالإمام الحسين ما كان إلا داعية إصلاح للنفوس و العمل على هدايتها إلى أنوار القيم الدينية ، و لذا تمثل همه في انتشال الناس من أحضان الدنيا الزائفة و الحرص على هدايتهم ، و لم يفكر للحظة أبدا في إيذائهم أو مناجزتهم بقتال ما لم ينزعوا و يبدؤوا بقتال .

و من القيم الإنسانية المشرقة التي أضاءت سماء الحرية و الكرامة في الطفوف ، ترسيخ مبدأ المساواة و حرق أوراق العنصرية و التفرقة على أساس و منشأ طبقي ، فقد أذابت الأخوة الإسلامية كل تلك النزعات المفرقة بين الأفراد و الشعوب ، فقد كان الطيف الواسع و المتنوع في أصحاب الإمام الحسين (ع) خير شاهد و دليل على إعلاء قيمة الإنسان و قدره وفق تقواه و فكره و ليس عنصره ، فهناك من العبيد كجون (رض) كان في كفة واحدة عند الإمام مع الأحرار من سادة بني هاشم كالعباس و علي الأكبر (ع) .


error: المحتوي محمي