القطيف الخضراء.. جزءٌ من خريطة النخيل التاريخية…!

سلسلةٌ من واحات نخيل متقاربة؛ تقع على امتداد ساحلي يبدأ من حافّة مدينة الدمام في سيهات جنوباً؛ حتى حواف رأس تنورة شمالاً، ثم تميل إلى الغرب وصولاً إلى آخر “طفيح” في الصحراء. هذا كلُّ ما تبقّى من القطيف التاريخية اليوم، وضمن هذه الحدود تتوزّع الواحات، حاضنة 23 مدينة وبلدة، تحت السقف الإداري المعروف بـ “محافظة القطيف”، ضمن المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية.

من الناحية الطبيعية؛ هذا هو حال القطيف منذ فجر التاريخ، جامعاً ثلاثة من الأنظمة البيئية الرئيسة: بيئة الريف، بيئة البحر، بيئة الصحراء. وحول هذه البيئات؛ تمحورت حياة السكّان على امتداد التاريخ، وتداخلت ـ أو توزعتهم ـ أنشطتهم بين الزراعة والصيد والرعي. إلا أن التركيز الأكثر تأثيراً في الاستقرار التاريخيّ تمثّل في الزراعة القائم عمادُها على النخيل. وهذا هو حال بلاد البحرين القديمة التي وصفها أبو حاتم السجستاني (توفي 245هـ) في تعديد بلاد النخيل “ثم إلى البحرين، هجر والقطيف”.(1)

النخلة الأولى
حتى الآن؛ لا أحد يمكنه الجزم بالمرحلة الزمنية التي بدأت فيها زراعة النخيل في بلاد البحرين القديمة، أو في أيّ مكان من العالم. لكنّ الأقوال الزاعمة متوفّرة، من بينها قول ابن وحشية النبطي الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وزعم أن منشأ نخلة التمر هو بلاد البحرين، وتحديداً في جزيرة “حرقان”، أو دارين تاروت. (2)

ومثل هذا الكلام “تاريخي، عاطفي” لا “علمي”، ولا يختلف ـ في مضمونه ـ عن زعم أبي حاتم السجستاني بأن “النخل قدّره الله عزّ وجل للعرب في جزيرة العرب وفي المشرق”. فمثل هذا الكلام مدفوعٌ بعاطفة انتماء أبي حاتم إلى الثقافة العربية وإلى سجستان في المشرق. (3) ونجد مثل هذه المضامين منتشرة لدى الباحثين العراقيين الذين يستدلّون بالآثار التاريخية على أن بلاد بابل هذي منشأ نخلة التمر، أمثال طه باقر وعبدالجبار البكر.

مبالغات
وهذا إن دلّ على الوجود التاريخيّ لنخلة التمر؛ فإنه لا يحسم أمر الوجود البيولوجيّ على النحو الذي يقطع بأن العراق هي منشأ هذه الشجرة. وتتساوى هذه الأقوال وأقوال المفسّرين والرواة الذين ذهبوا إلى القول بأن النخلة خُلِقت من فضلة خلق آدم أبي البشر. أو ربط كثرة وجودها في القرآن الكريم بتفسيرات مُبالغةٍ تتجاهل الأهمية المماثلة لنخلة التمر في الكتب السماوية الأخرى، أو في فلكلور الحضارات الوثنية في بلاد ما بين النهرين وحوض الخليج العربيّ.

أساس اقتصادي
إن المحصّلة النهائية تؤكد وجود احترام بالغٍ لشجرة النخل في الحضارات المتعاقبة، الدينية وغير الدينية. وأن أساس الاحترام والتبجيل؛ هو موقع نخلة التمر من الاقتصاد الذي يمسُّ معيشة الناس على نحو مباشر. وأن كلّ ما استتبع ذلك من أفكار روحانيةٍ أو ممارسات ميثولوجية؛ لا يخرجُ عن التفسيرات البدائية التي ولّدها الإنسانُ من علاقته الاقتصادية بالنخلة التي “كانت” تمنحه الغذاء والدواء والمسكن والظلّ والدفء والترفيه، وتكاد تتحكّم في دورة حياته كلها، من المهد إلى اللحد، في بعض المجتمعات الزراعية، كما هو حال القطيف.

نظريتان
وعلى هذا الفهم؛ لا جدوى من أيّ تعصّب يجرُّ نار المقولات التاريخية إلى قرص أيّ منا إقليمياً أو دولياً. إن تحديد المكان الأول الذي نشأت فيه النخلة الأولى، على كوكب الأرض، موضوعٌ لا تحسمه الروايات التاريخية وحدها، ولا حتى علم الآثار وحده، ولا علم الأحياء وحده.

على أن من الوجاهة الالتفات إلى الطروحات الجادّة، وعلى نحو حذرٍ أيضاً. ففي العصر الحديث هناك نظريتان مشهورتان حول الموضوع. إحداهما للعالم الإيطالي أدواردو بيكاري الذي يدعي بأن موطن النخل الأصلي هو الخليج العربي. والثانية لدو كاندول، ومفادها أن النخيل نشأت منذ عصور ما قبل التاريخ في المنطقة الشبه حارة الجافة التي تمتد من (السنغال) إلى حوض (الاندس).

والقطيف؛ جزءٌ من الخريطة التاريخية التي قام جزءٌ عريض من معيشة سكّانها على النخيل، زراعةً واستهلاكاً وتجارةً وتصديراً، حتى باتت حياة الإنسان فيها متداخلة بحياة النخلة ذاتها، وعلى مدار التاريخ أيضاً، كما سنرى في حلقات آتية.

——–
(1) كتاب النخلة:41. وهجر: هي الأحساء اليوم. وثمة رأي يذهب إلى أن “هجَر” هي الشطر الشرقيّ من الجزيرة العربية قديماً، ومعها جزيرة أوال “مملكة البحرين” حالياً. لكن الراسخ أن “بلاد البحرين”، اسمٌ كان يُطلق على المنطقة الواقعة بين كاظمة شمالاً حتى عمان، بما في ذلك صحراء الدهناء والأحساء.
(2) النخيل وتصنيع التمور في المملكة العربية السعودية: 32.
(3) نخلة التمر: 40.

الصورة:
تستند القطيف إلى موروثٍ حيويّ وثقافي متصل بالنخيل منذ آلاف السنين.
التُقطت الصورة في نخل “المعامرة”، سيحة أم الحمام، القطيف السعودية. 17 أغطس آب 2017.


error: المحتوي محمي