لم يعد يفاجئني ما يقدمه الكاتب “علي الغاشي” من طرح بنّاء وتنوّع معرفي مؤثر. فهو يبرع في طرق مواضيع جديدة غير مطروقة، وآخرها كتابه (الإنسان في ثنائية العلم والدين) هذا الكتاب الذي تفنن فيه بسبر الاستدلالات والشواهد وقول الكثيرين من العلماء والأدباء والمفكرين فتجد نفسك مشبعًا متخمًا بوجبته المعرفية الدسمة.
ما يهمني في وجبته المليئة بالطعام الفاخر أن سعادة الكاتب يرفض أن ينزل بثقافته من برجها العاجي إلى مستوى الإنسان البسيط، فهو لا يزال يتكلف في العبارات ويراوغ في المصطلحات، بل ينتهج أسلوبًا ماكرًا ملغمًا بكرات نارية تحرق القارئ والورق!
فمن كلمة (المبدأ الأوكامي) إلى (الأحايين)، ومن مصطلح (الوحياني) إلى عبارة (الاستعمار الثقافي) ومن (الأبستمولوجيا) إلى (الأغراض الأيدلوجية). حتى يُفاجئ القارئ بمطب الكلام المقلوب فلا يستثني شيئًا من دغدغة الكلام اللاذع الممزوج بالمزاج اللفظي، الذي لا يُهضم إلا من خلال دفعه بكأس من الماء!
إنه يركض في الكتابة ركضًا “سرابيًا” رغبة منه أن يُمطر علينا في الفصول الأربعة! متجاهلًا قابلية الأرض وشهوتها، ومكلفًا الورق أكثر من وسعه، وكأن الحياة كتابة وكتابة وكتابة! متجاهلًا إسرافه في استعمال الحبر والورق (والله لا يحب المسرفين!).
قبل سنوات قرأت مقالًا بعنوان: (طز في القارئ)، ويُعنى به ذلك القارئ الكسول، الذي يريد الكاتب موظفًا عند أبيه، ليكتب له ما يشاء، ولكني الآن أخرج بنظرية أُخرى وهي نظرية (تدليع القارئ).
يجب أن يُدلَّل القارئ، وأعني بالتدليل المفهوم الخدماتي للمقال، وليس مضمون المقال، بمعنى أن المحتوى يتحكم به الكاتب، ولكن من باب إكرام الضيف، وهو هنا القارئ، يجب إيصال الوجبة الكتابية على طريقة المطاعم؛ التي توصل الطلبات إلى المنازل، كشكلٍ من أشكال التسهيلات لطالب الطعام!
إن القارئ أمامه الآن مئات الآلاف من الخيارات، لذلك من حقه علينا أن نُقدّم لَه الزَّاد والشراب، وهنا ينتهي دورنا، وهو حرٌّ في النهاية إذا رغب الزاد، أو زهد فيه. كما قال الشاعر:
وَنُكْرِمُ ضَيْفَنَا مَا دَامَ فِينَا
وَنُتبعُهُ الكَرَامَةَ حَيثُ سَارَ
كما نريد ممن يمسك القلم أن يتدبر في قول المعرّي:
أنا وإن كنت الأخير زمانه
لآت.. بما لم تستطعه الأوائل
متى يكون الكتّاب هنا يعيشون هذا الهم، هم التجاوز، هم المخالفة، أعني هم التجاوز المنضبط والمخالفة المجدية.. من يأتينا بما لم تأت به الأوائل!؟
أما المثقفون الذين يتذمرون من هجران الناس للثقافة، الذين تركوا الملعب للفنانين والرياضيين والسفهاء، فأقول لهم:
المجتمع هو ساحة ملعب إن لم تنزلوا له كقادة ملهمين ومؤثرين وتقوموا بالتسويق للثقافة كسلعة، فعلى ثقافتكم اذرفوا الدموع!