
لم تكن الحياة مُجرد نبضات، تُمارس فعلها، هي حُبلى بالمتاعب، وما يُقرح القلب، مُنذ أن كنت في تلك المرحلة الزمنية، التي كانت كالوهم لا أعرف حقيقتها، ولا أعلم من أكون حينها، وكيف سأكون، وإلى أين ستكون خُطواتي المُقبلة.
أن تفقد حنان الأب، حُضوره في حياتك، الشّعور بحرصه واهتمامه، خوفه الدّافئ، أن تُحرم من احتوائه فإنّ الدنيا تصغر في عينيك، وتُجحظ أحلامك اليانعات ذات وقت، ولكن قد تُهديك الحياة من يأخذ بيديك، ينتشلك من اليأس إلى ضفاف الأمل.
في كلّ إنسان شذرات أمل، تُضيء له الدرب، وعليه أن يجدّ في البحث عنها وتدويرها لتُشرق الحياة في عينيه مُجددًا.
وهذا ما حدث لي، فبعد غياب أبي عنّا، وما ترتب على الطلاق من مآس، حيث تركني أبي مع أمي لأعيش معها وتفرغ إلى حياته الأخرى التي عرفت بعد حين أنَّه تزوج من فتاة تصغره بعشر سنوات، أمي تأزمت حالتها النّفسية، أصبحت الابتسامة تُفارق وجنتيها ولكي تهرب من حُزنها أغدقت كلّ اهتمامها عليّ؛ لتهرب من مشاعر الخذلان.
كانت أمي تُدير الأسرة من خلال ما يُرسله أبي كلّ شهر على حسابها البنكي، أيضًا المُساعدة التي يُرسلها جدي من طرف أمي لنا كلّ شهر، جعلت أمُورنا المادية لا تُشكل عائقًا لنا لنعيش في رغد.
هكذا مضت الأيام بي، وأمي شعرها ازداد بياضًا وكلّما تأملت بياضه، وتجاعيد ملامح وجهها أغرق في مُعاناتها، أعيد الماضي في عينيّ، أحاول جاهدًا أن أتقمصها، كما يفعل المُمثل الدرامي في تقمصه للشخصية؛ لأعيش ألمها، وغُربتها.
أدركت بعد كلّ هذه السّنوات أنَّ أصعب ما يمرّ في حياة المرأة أن تفقد رفيق دربها، ونصفها الآخر، عشقها الذي كانت معه سنوات، تُقاسمه مُرّ الحياة وحلوها بسبب امرأة أخرى سكنت قلبه ليكسرها الخُذلان، إنَّها الصدمة الكبيرة التي تُرهقها، وتُرهق كلّ امرأة، وتجعل زهرة رُوحها ذابلة عُمرًا، لا تُسعفه الرّاحة مُطلقًا.
من يقرأ يخلق عالمًا آخر يُضيفه إلى حياته، لا الوحدة تُوجعه، إن كان في حضرة الكتاب، إن كان في عناق اليراع، لقد تربّيْت في هذه البيئة، لدينا مكتبة مليئة بالكتب مُختلفة الألوان والمشارب، مع أن أمي لم تُكمل تعليمها إلا أنَّها زرعت فيَّ هذه الأجواء، وجعلتني أغرم بها.
سألني صاحبي عن مشروعي في عمل “مقهى”، وقال: لماذا تُريد أن يكون مشروعك، هو “المقهى”، تحديدًا؟ فأجبته: بعيدًا عن علاقتي بالقهوة، كانت هناك فكرة تُراودني مُنذ زمن، وهي إنشاء “مقهى”، يُقدم القهوة بأنواعها مع الحلويات، إضافة إلى تقديم الجو المُناسب للقراءة، أو الكتابة لكل مُتيّم بهما من خلال توفير الكتب، وتوفير المكان المُريح، والمُلهم لمن يُريد الكتابة، وبهذه الطريقة أكون قد دمجت ما بين رغبة الزبون في ارتشاف القهوة، وأيضًا توفير البيئة المُناسبة للقراءة والكتابة لكلّ راغب في ذلك، ونشر الثقافة.
تعجب صاحبي من الفكرة التي أفصحت عنها، والتي لم تلمع في مُخيّلته: جميلة هذه الفكرة، وستكون أجمل عندما تُطبّقها، دائمًا تُبهرني بنظرتك المُختلفة للأمور، وكيفية تدويرها. يُعلق صاحبي.
أضفت إليه: وبإذن الله سأقوم بعمل مقهى في المُستقبل القريب، يُعنى بالقهوة بأنواعها مع الحلويات كهذا المقهى، بالإضافة إلى توفير بيئة خصبة للطلاب ليكون مكانًا يُمكنهم فيه مُراجعة واستذكار دُروسهم مع إيجاد إمكانية التواصل مع “الإنترنت” لتتم الاستفادة أكثر لمن أراد البحث، كما تعلم أنَّ التّطور التكنولوجي، وهذا الفضاء الإلكتروني جعل المعلومة من السّهل الحُصول عليها.
وضع صاحبه يديه مُباركًا له هذه الأفكار التي يتبناها، ورُؤيته النّوعية مُبتسمًا، وفخُورًا بصديقه الذي يتحسسّ كرسيه المُتحرك بصمت المُتأملين، الواثقين من أنفُسهم.
احتضن يديه، وكلاهما يُحدّق في الآخر، لغة العيون من أصدق اللّغات.