ورد عن أمير المؤمنين (ع): (من سخت نفسه عن مواهب الدنيا فقد استكمل العقل)(غرر الحكم ص 238).
كلمة نيرة صادرة ممن كان عمله يطابق تمامًا ما يتفوه به من حكم وتوجيهات، والمقصود بمواهب الدنيا أي ما يوهب وينعم به على المرء من متاعها الذي يبقى معه حتى يرحل منها، والنفس السائخة أي المعرضة والمتجنبة للاسترسال واللهث خلف متاعها بلا توقف ولا حد، فمثل هذا الإنسان -أهل الدنيا- قد اتبع هواه وفقد تحكم العقل الرشيد في خطاه، مما جعله حريصًا على زخارفها وكل همه ومبتغاه وهدفه في الحياة الاستزادة من تلك المظاهر الخداعة، وأما من فهم حقيقة دوره الوظيفي في هذه الحياة مؤازرًا لتلك المعرفة بإدراك أن له أجلًا محددًا لا زيادة ولا نقصان فيه، ومن بعده يرحل إلى العالم الأبدي الذي يستحق أن يعمل من أجل توفير معالم الراحة والنعيم فيه، ولا يحصل على ذلك إلا بعمله الصالح في الدنيا والذي يشكل زاده المدون في صحيفة أعماله يوم توزن في ميزان العدالة الإلهية، مثل هذا الإنسان الواعي لا مخافة عليه من تغلغل حب الدنيا في قلبه.
والانكباب على متاع الدنيا والافتتان بزينتها وجعله الهدف الأوحد الذي نعيش ونعمل من أجله شيء، والطموح الذي يملأ نفوسنا ويحركنا باتجاه تحقيق أهدافنا وتنمية قدراتنا والتغيير في أوضاعنا نحو الأفضل شيء آخر، فما يشير له أمير المؤمنين (ع) لا يتعارض ومفهوم تطوير النفس وتنمية القدرات والمواهب والذي يعد من أبجديات التنمية البشرية، وإنما يؤكد الإمام علي (ع) على اتجاه خاطئ وهو التعلق والانبهار بمتاع الدنيا الزائل، حتى يتحول ذلك إلى وهم يعشعش في الذهن وهو طول الأمل والغفلة عن آجالنا المكتوبة لنا وبالتالي نسيان الاستعداد ليوم الآخرة، فالقرآن الكريم يؤكد أن الدنيا زاد المؤمن للعمل الصالح وصنع المعروف، فيحول حياته إلى محطات زمنية ينتهز فيها الفرص ويستثمرها في طريق قربه من الله تعالى، ولكن هذا لا يعني الرهبانية والانفصال التام عن عالم الدنيا والتقاعس عن العمل فيها لتوفير مستلزمات الحياة الكريمة له ولمن يعولهم؛ لئلا يصبح عالة على غيره أو عنصرًا غير فعال في إثبات وجوده وتنمية مجتمعه، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ …}{القصص الآية 77}.
فأمير المؤمنين (ع) يعمل جاهدًا على بث منهجه التربوي والأخلاقي عبر الأجيال المتلاحقة، من خلال هذه الحكم النيرة الموجهة لنا نحو طريق الخير والصلاح، والمحذرة من المنزلقات والمهاوي التي يمكن أن تسقط فيها نفوسنا، فمن أعظم الآفات الأخلاقية المدمرة للإنسان هي الافتتان والانخداع بمظاهر الدنيا وزينتها، والذي يوقع الإنسان في الارتهان لمظاهرها فيعمل على تحصيلها بأي حال وطريقة، وهنا يكمن الدور المخادع للشيطان الرجيم فيهون على المرء فعل أي خطيئة ومنكر في سبيل الاستزادة من نعيمها، ولو أدى ذلك إلى الكذب والنفاق في التعامل مع الآخرين والتعامل بمعاملات مالية محرمة، فيعتدي على هذا وينهب مال ذاك ويفتري على فلان وهكذا ينغمس في الدوائر المحرمة شرعًا وأخلاقيًا، فحب الدنيا والالتصاق بمتاعها الزائل رأس كل خطيئة وإثم يقع فيه الإنسان المغرور بها، فالدنيا كالبحر كلما اغترفت شيئًا من متاعها لم يطفئ ظمأك بل ازددت عطشًا.
أهل الدنيا وعشاق متاعها لا يتورعون أبدًا عن تجاوز أي خط أحمر من الخطوط الأخلاقية، بل يسهمون بقوة في إحداث الخصومات والتقاطعات بين أفراد المجتمع بما يحقق مصالحهم الضيقة ويحفظ لهم طريق الإمداد لممتلكاتهم.
أمير المؤمنين (ع) قدوة في ساحة العمل والكد وطلب الرزق الحلال، فقد كان يعمل مزارعًا ليكون موضع تأسٍ من المؤمنين في نبذ وتجنب التقاعس عن العمل والتكاسل، ممن يبررون ذلك بأن العمل الوظيفي يلهيهم عن أمر آخرتهم ويعد تكالبًا على حطام الدنيا الزائل، فهذا هراء ودجل والتفاف واضح على الحقيقة، فاليد العاملة مقدسة في الإسلام لأنها تقي صاحبها وأسرته من مد اليد إلى الحرام، وما يقصده أمير المؤمنين (ع) هو الانغماس في الدنيا حتى ينسى المرء العمل لآخرته، ويصبح الشأن الدنيوي شغله الشاغل الذي يهتم به ويفكر فيه وكل أحاديثه حوله.