كلّ صباح أستمع للشابّ من بلاد الهند الذي يتقن اللغة العربية وهو يساعدني في تنظيف الحديقة، أسأله: أخبرني عن بلدك! يقول: بابا أنا “ديرتي” ليس فيها شيء، لكن بعد خمسة أيام يأتي المطر ونزرع الأرز، ويكمل الشاب تفاصيل دورة زرع وحصاد الأرز. بعد أشهر يحكي لي عن المطر ودورة القمح! إخوة وأخوات -غرباء- كلّ يحكي حكاية وطن جميل يحملونه معهم أينما حلوا، وحكاية وطن آخر يقصونها لأهلهم عندما يعودون؛ حكايات من عندنا!
ملايين -الضيوف- يقيمون بيننا؛ وبكلّ احترام بعضهم يبقى مهاجرًا عشرات السنين، ولقد قرأت في المواقع الإخبارية من حولنا نعيًا لرجلين -مقيمين- في مدة متقاربة، الأول من باكستان والثاني مصري! ملايين يعملون في وطننا -ذكورًا وإناثًا- بين طبيب ومهندس وبنّاء وعامل وغير ذلك من المهن التي لولا وجودهم بيننا للقينا عنتًا ومشقة في القيام بها. ها هم أبناء هذا الوطن الكريم يصعدون السلم الوظيفي ويشغلون الفراغ، وإلى أن تحين تلك الساعة، نقول: الشكر لمن يسكن ويعمل بيننا، يتعلم من ثقافتنا ونتعلم من ثقافته!
فاكهاني، جزّار، خبّاز، عامل في سوق، طبيب، مهندس، تمتلئ الصفحة لو أردت تعداد أصحاب المهن الذين نَتعامل معهم كل يوم على اختلاف مشاربهم وجنسياتهم، كلهم يثنون على حسن المعاملة التي يلقونها من الناس ويشكرون اللهَ على فرصة العمل في بيئةٍ محترمة.
هذه هي القيم السامية التي جاءت بها الرسالة السماوية: “فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق”. ومع انفتاح الناس بعضهم على بعض، الصنفان موجودان بيننا، من نشترك معه في الدين ومن نتشارك معه في الخلق والإنسانيّة.
طبيعي أن يحبوا أوطانهم لأن “حب الوطن من الإيمان” ورسول الله -صلى الله عليه وآله- سكنَ المدينة وتوفي فيها ولم يخرج حبّ مكة من قلبه! روي أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال لأبان لما قدم عليه: يا أبان! كيف تركتَ أهل مكة؟ فقال: تركتهم وقد جيدوا، وتركتُ الإذخر وقد أعذَق، وتركتُ الثمام وقد خاص، فاغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله. وهو صلى الله عليه وآله على ناقته واقف بالحزورة يقول لمكة: والله إنك لخير أرضِ الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أخرجت منك ما خرجت.
في سنوات العمل تعرفنا على كثير من الأجانب وعملنا معهم سنواتٍ عديدة، ولحسن الحظ أن وجدت في هذه الآونة وسائل التواصل الاجتماعي فلم تنقطع الروابط والصلات معهم، ولعلها بقيت أقوى من بعض الأصدقاء من أهل الوطن أو حتى من أهل البلدة الواحدة!
لا يشعر المرء بالغربة إذا كان محترمًا ومقدرًا عكس إذا ما كان محتقرًا ومهانًا فإن الغربة تكون كربة. أما الغربة الحقيقية فهي السفر على مناكب وأكف الجيران والأصدقاء في سفر اللا عودة!