ورد عن أمير المؤمنين (ع): خير ما ورث الآباء الأبناء الأدب (غرر الحكم: 3813).
لا يمكننا أن نغفل عن حالة العظمة عند الآباء المنكرين لذواتهم، فكرسوا أعمارهم وجهودهم في سبيل توفير مستلزمات الحياة الكريمة لأبنائهم، وتوفير البيئة التعليمية الممكنة لهم من شق الطريق بقوة نحو مستقبلهم، كما أنهم يتبعون مبدأً اقتصاديًا مهمًا وهو الادخار باقتطاع شيء مما يحصلون عليه من مال، وذلك لمعالجة الضوائق الاقتصادية التي يمكن أن يعاني منها أبناؤهم مستقبلًا، كما أن ذلك المال المدخر يشكل عونًا لأبنائهم في بدايات حياتهم الزوجية، وبعد رحيل الأب يكون ذلك المال (الميراث) مساندًا لهم وشاهدًا على تفاني ذلك الأب، ولكن الميراث لا يقتصر على الجانب المادي بل هناك ما هو أهم وهو تلك التوجيهات التي يقدمونها لأبنائهم، فتبقى تلك الكلمات والحكم خالدة على ألسن أبنائهم، فيتذكرون مواقف آبائهم وأحاديثهم التي تشكل اليوم خير مساند لهم في مواجهة تحديات الحياة ومصاعبها.
لعل المتبادر إلى الأذهان من كلمة الميراث وتركة الوالد هي ما يخلّفه لهم من الأموال والعقارات، مما عمل على توفيره وادخاره لهم في المستقبل فيعينهم على صروف الدهر والظروف المالية الصعبة، وهذا مما لا خلاف عليه ولا غبار في صحته إذ إن غريزة الأب الحانية على أبنائه تشكل حافزًا له على بذل المجهود والسعي الحثيث لبناء مستقبل واعد لهم، ولكن الحديث يدور حول العامل المشترك بين الآباء بلا استثناء ولا يفرق بين الغني والفقير منهم، إذ قد يكون الأب من ذوي الدخل المحدود وبالكاد يوفّر مستلزمات الحياة الضرورية والكريمة لأسرته، ولا يجد متسعًا لتوفير أو ادخار شيء من المال لهم، ولكنه قدم لهم ما هو أهم من ذلك ألا وهو التغذية التربوية والأخلاقية وخلق روح الهمة العالية عندهم وزرع روح الأمل والثقة بالتدبير الإلهي، مما يسعفهم ويساندهم في وسط الضغوط الحياتية والمشاكلة المصادفة لهم، فهذا الميراث الأبوي أهم من كل الأموال والعقارات إذا كان مفتقدًا لها ولم يستطع ادخارها لهم، إذ التنمية والاستثمار في العقول أهم من الاستثمار في غيرها، وذلك أن الإنسان الناضج في فكره وصاحب الإرادة القوية يحرك قواه ومهاراته في ميادين العمل وبالتالي يستطيع تحصيل لقمة العيش الحلال، أما المال وحده فلا يصنع شخصية وازنة وقوية إن كان يفتقد للرشد والحراك الفكري لمواجهة التحديات، وهذا لا يعني – بالطبع – ذلك النمط من الناس الذي يبخل بماله حتى على فلذات كبده ويحييهم عيشة الهم والمر والألم ويمنع عنهم أبسط معالم العيشة الكريمة.
ومن ذلك الميراث الحسن للأبناء هي السمعة الحسنة والطيبة في وسطهم الاجتماعي، والذي يشكل مصدر مقبولية ومحبوبية لهم يتعزز إن ساروا على نهج أبيهم في صلاحه ومعشره الحسن وتعامله الجميل مع الآخرين، فكلما التقى بهم أحد ترحم على والديهم لإحسانهم في تربية هؤلاء الأبناء، فهم يشكلون ذكرى وسيرة تنتقل معها الأذهان لملامح تعامل أبيهم الراقي وإن رحل من هذه الحياة.
الحكمة والتوجيهات التي يمنحها الأب لأبنائه بما يفهمهم حقيقة دورهم الوظيفي في الحياة، وإرشادهم إلى اعتماد النظرة الفكرية المتأنية لكل أمورهم ودراسة النتائج المترتبة على خطاهم يجنبهم التهور والخطوات الانفعالية، كما أن الحياة تحتاج إلى سعة صدر وتحمل للمتاعب حتى يحافظوا على هدوئهم النفسي، يساعدهم على التعامل مع الأزمات والعراقيل بمنطق قوي، فمفاتيح الحياة والتعامل بنظرة واقعية مع الأحداث تجلب لهم الوضوح والثقة في خطاهم.
وزرع الوالدين المحبة والتكاتف بين أولادهم والحفاظ على لُحْمَتهم هو خير ميراث لأبنائهم، فقد يجتمع الأبناء تحت سقف واحد ولكن النفوس متباعدة وكل واحد منهم يعيش عالمه الخاص بعيدًا عن إخوته، مما يزرع في نفسه الأنانية وتبلُّد وجدانه تجاه أحوال ومشاكل إخوته ولا يبالي بظروفهم الصعبة، فكم من البيوت تفككت عراها سريعًا بعد رحيل الأب وأصبح كل واحد من الإخوة يعيش شبه قطيعة مع البقية ويفقد الاتصال والتواصل معهم إلا فيما ندر، ولذا فإن نسج علاقة المحبة والتعاون بين الأبناء تحتاج إلى رعاية واهتمام ومتابعة من الآباء.