في حينا القديم والجميل المتلاصقة جدران بيوته والمتواصلة قلوب سكانه والمشتركة في التربية فيه كل الأمهات ربما لعارض ولظرف طارئ تكون لنا أماً بالرضاعة أو الرعاية حتى لا نكاد نفرّق في الأنساب ولا نعرف رابط القرابة القريبة التي نراها في حبهن الكبير نعتقد أنهن أمهاتنا ونتساءل هل هن بالفعل أمهاتنا؟ ولماذا كل هذا العدد؟
ثم نقتنع نعم هن أمهاتنا فكل صفات الأمومة قد تجسدت فيهن ولا يمكن الحديث عن الغرباء بمحضرهن، رعايتهن واضحة حتى إذا ارتفع بكاؤنا دخلن المنزل لنختطف من بين يدي أمنا ليسكّنّ عنا الوجع ويكون غداؤنا في منزلهن الجميل.
يمتلئ البيت من الأمهات ونسمع “حجاويهن” الجميلة و”سوالفهن” المميزة فيكون المكان مليئًا بالعطف، نمر وكل واحدة تنادينا بلطف، نتعمد المرور ليفيضن علينا بالحب والاحتضان.
هي حارة وحيّ يكتظ بالأمهات نلعب في أزقته فنشرب من أي منزل نحن على أطرافه نبقى في أوقات الظهيرة فتخرج لنا واحدة من تلك الأمهات تمسك بأيدينا لتقول: الشمس حارة فتوصلنا للمنزل بحنان.
ربما يلعب في دارنا أبناؤهن أو نلعب في دارهن يمرون علينا أو نمر عليهم نأكل معهم أو يأكلون معنا نخطئ في حساب عدد الإخوان فلا ندري هل نضيف معهم الجيران أم نحسب من دونهم، ربما الحديث مبالغ في صياغته ولكن هكذا كنا في ذلك الزمن ومازلنا حينما نلتقي نلتقي كما يلتقي الإخوة بلا فاصل.
دارنا القديمة المملوءة بالأمهات بان بها النقص الذي لا يسد ولا يعوّض فكل يوم ينطفئ من الحي مصباح لا يمكن إصلاحه وعودة إنارته فتلك الجلسات الجميلة بدأت تتلاشى وتتناقص فقد انقضت تلك المرحلة بالتدريج الموحش وتتلاشى تلك العلاقة بحكم القدر القاهر ليحل اليتم على كل أبناء الحي يتجرعونه لأكثر من مرة فقد رحلت أمهاتنا وبدأنا نشعر باليتم والغربة فلم يعد الحي القديم يكتظ بالأمهات.
رحلت الخالة أم جاسم المعاتيق وبعدها رحلت جارتنا أم علي الغنام (ضيفة) ثم رحلت الحاجة أم أحمد العلق ورحلت جارتنا أم أحمد المطر (خبازة) ثم رحلت جارتنا أم عبدالله الحريري ورحلت جارتنا أم علي البحار (حبيلة) ورحلت جارتنا أم حسين حبيل ورحلت الطيبة أم حسين المطر (مطرية) ورحلت جارتنا أم حسين القلاف ورحلت أم محمد الدبيسي!
وها نحن اليوم نفقد أقرب الأمهات إلى قلوبنا وإلى منزلنا الأم الحنون التي كانت توأم الوالدة ونسخة مكررة لنا من الأمهات رحلت عنا وكأننا نفتقد الوالدة دون فرق رحيل ملأ قلوبنا بالحسرة والوحشة رحلت أمنا الغالية الفاضلة المؤمنة أم أحمد البحار (صلاحية) وكأنها تعلن إغلاق حي الأمهات رحمة الله عليها وعلى الأمهات الراحلات ليتحول ذلك الحي حي الأيتام والغربة وتعود بنا الذكريات إلى وقت وجودهن بيننا كيف كنا في نعمة الأمهات الصالحات المؤمنات اللواتي أتعبن أنفسهن في الزمن الصعب لرعايتنا وتربيتنا وكن معلمات بلا شهادة ومربيات بلا تخصص ومرضعات بالولاية منذ الصغر تعبن في إنشاء جيل مبارك طيب وخدمن الزهراء سلام الله عليها بكل ما يمتلكن من صحة وعافية ومال وأولاد ليخلدن بما صنعن ويستمر عطاؤهن وحنانهن عبر الجيل الصالح الذي أسسنه ثم رحلن.
نسأل الله لهن المغفرة والرحمة وإن يجزيهن عنا وعن الدين خير الجزاء ويحشرهن مع الزهراء والعترة الطاهرة ويجمعنا معهن في مستقر النعيم.
لا حرمنا الله بركات ما قدمن وصنعن لأرواحهن الطاهرة الطيبة الحنونة نهدي لهن ثواب المباركة الفاتحة.