من جزيرة تاروت.. الخطيب أحمد العسكري.. كفيف صاحب المنبر 62 عامًا.. واستخرج «الهوية» بـ25 ريالًا ليلتحق بمعهد النور

لم تقف ظلمة كريمَتَيْه عائقًا أمام حبه الخطابة والتعلم، فظل يبحث بِنَهمٍ عن مصادر للعلم تناسب وضعه وتساعده في تحقيق ما بداخله من طموح، حتى أنارت لغة “برايل” عتمة عالمه، ووجد فيها ضالته؛ ليروي شغفه بالقراءة والمعرفة، وكان لها فضل كبير في حفظه القصائد والأشعار، والأبحاث، وكذلك الكتابة، ذلك جزء من قصة مُلهمة تروي أيام طفولة الخطيب الحسيني -كفيف العين بصير القلب- أحمد حسن إبراهيم العسكري، وتمر بمراحل شبابه ونشاطه العلمي وبحثه عن طرق ووسائل التعلم في القطيف والأحساء والعراق.

البداية
ولد “العسكري” في حي أرض الجبل 5 صفر 1368هـ / 1947م، وحفظ القرآن الكريم منذ صغره على يد معلمه الحاج محمود آل درويش (أبو علي) -رحمه الله- في جزيرة تاروت، وبدأت رحلته التعليمية في الكتاتيب إلى معهد النور، ثم الخطباء والمجالس الدينية.

العشق الحسيني
بقلبٍ يسكنه العشق الحسيني وبأنفاس ولائية، شغف “العسكري” بفن الخطابة، وبدأ عام 1382هـ في قراءة المقدّمة (القصائد والأبيات الشعرية) كطالب مبتدئ في الخطابة تحت التدريب. ثم تتلمذ على يد الملا خليل أبو زيد والملا عبد الله علي المبشر، وكان تعلّقه بالخطابة في وقت مبكر جدًا.

الصوت الولائي
ويعد “العسكري” صاحب الصوت الولائي- أحد خطباء الرعيل الأول في جزيرة تاروت، حيث كان يحرص على حضور المجالس التي يوجد فيها الخطباء والمهتمون بالخطابة الحسينية، ويتحدثون في الجديد من المعارف والعلوم الدينية والاجتماعية بالقطيف، فنهلَ من علمهم الكثير مما ساعده على التقدّم والإصرار للمواصلة في طلب العلوم، كما امتاز بذكاء شديد وقوة وسرعة حافظة.

طالب شغوف
ويعود العسكري بالذاكرة إلى الماضي، ليتذكر حينما كان أحد الطلاب الشغوفين بحضور دروس ملا خليل أبو زيد -رحمه الله- صاحب المدرسة الخطابية التي ينتمي إليها معظم خُطباء جزيرة تاروت الذين تربوا ومارسوا الخطابة تحت إشرافه المباشر وفي طليعتهم الخطيب المرحوم الملا عبد الرسول البصارة -رحمه الله- والشيخ عبد الرسول البيابي، والشيخ
محمد علي البيابي، والخطيب ملا محمد أوحيد، والملا حسين الفضل وآخرون إضافةً إلى أبنائه -حفظهم الله-.

وتابع: “منها تطورت علاقتي معه منذ الصغر وزادت قوة وذلك لما يطرحه من علوم عقائدية وثقافية واجتماعية ودينية بحضور عدد من الشخصيات المهتمة بفن الخطابة والإلقاء، لقد كنت أتشوق كثيرًا لحضور هذه الدروس وأسجل في ذاكرتي ما يتم طرحه للفائدة”.

معهد النور
زاد فضول “العسكري” التعليمي عندما سمع من أصدقائه أن هناك معهدًا متخصصًا لتعليم المكفوفين في الأحساء، فهمَّ مسرعًا يحمله الشوق لينهل المزيد من العلم، ولكنه لم يوفق في التقديم للمعهد؛ بسبب عدم وجود هوية وطنية له بحسب شروط الدراسة، وظل يفكر كيف يحل الأمر مع أحد أصدقائه الذي نصحه بالتوجه إلى الحاج عبد الله الخباز (أبو رجب) للمساعدة في استخراج الهوية.

الهوية الوطنية
حصل على الهوية الوطنية بعدها بمساعدة الحاج الخباز مقابل 25 ريالًا، رسوم الاستخراج آنذاك بحسب ما يتذكر “العسكري”، وسارع بعدها للبحث عن مكان التسجيل الرسمي لمعهد النّور حتى حصل عليه في الدمام وتم التسجيل.

النور في القطيف
محاولات كثيرة كان أبطالها بعض الشخصيات المهتمة من أهالي المنطقة بفئة المكفوفين؛ لفتح معهد خاص في محافظة القطيف دعمًا لهم بدلًا من الذهاب إلى الأحساء لما به من جهد وعناءً عليهم ولصعوبة المواصلات، ونجحت مساعيهم بالفعل وجاءت الموافقة بفضل الله- وتم افتتاحه في 1-7-1384هـ في القطيف بعد الأحساء.

سنوات الدراسة
وعن سنوات الدراسة في المعهد، يتذكر “العسكري” أنها كانت تنقسم إلى قسمين علمي ومهني، وكان القسم العلمي: لمن هم دون العشرين، أما المهني: فهو لمن فوق العشرين، معقبًا أن الدراسة للقسم المهني تمتد لست سنوات بمهارات فنية وصناعات حرفية كالفرش والمكانس والكراسي والطاولات وغيرها. بينما عدد سنوات الدراسة في القسم العلمي 12 سنة بين مرحلة ابتدائية، ومتوسطة ثم ثانوية، وذلك بنظام المنهج الدراسي العام لوزارة التعليم لجميع الطلاب.

مجهود كلل بالنجاح
وكلل مجهود الخطيب الحسيني بالنجاح، وتخرج من المعهد، وكان حينها يتم توظيف الطلاب الخريجين من مرحلة الثانوية في المدارس العامة لتعليم الطلاب، مضيفًا: “كانت الدفعة التي تخرج منها في قسم الإدارة، ومن المهام الموكلة إليهم الوقوف على حصص الانتظار، وفي حالة غياب أحد المعلمين يقومون بتدريس الطلاب بدلًا منهم”.

ومارس “العسكري” مهنته في الإدارة لما يقارب الست سنوات مع بعض زملاء الدراسة، ومن بينهم؛ وجدي محروس، حسن أحمد محيسن، والخطيب الحسيني عيسى أحمد مهنا -حفظه الله-.

حي جديد
ويستذكر الخطيب “العسكري” انتقاله من حي أرض الجبل إلى -حي الربيعية- حيث بدأت هناك حياته الجديدة، والتي أتاحت له التعرف على عوائل وحسينيات وسهّل عليه حضور المجالس، وعلى الرغم من المسافات التي كان يقطعها مشيًا على الأقدام، لم يترك مشاركاته في مجالس تاروت.

أول المجالس
وعن أول المجالس الحسينية التي قرأها في الربيعية، قال “العسكري”: إنها كانت للحاج أبو جعفر الحبيل، والحاج حسن العوامي، وماتم الماجد “المايد”، مستطردًا: “جاءني رسول من الحاج علي مهدي احليل -رحمه الله- يطلب مني القِراءة في “مسجد العباس” الجنوبي عصرًا وليلًا طوال أيام شهر عاشوراء فامتد ذلك لما يُقارب أربع سنوات، ومن ضمن المجالس أيضًا مجلس الحاج معتوق الجمعان الذي طلب منه قِراءة عشرة أيام المحرم -وسطية عصرًا- ثم حوّلها إلى عشرة أولية ثابتة مدة من الزمن ما يقارب 55 سنة”.

المآتم الحسينية
تحدّث “العسكري” كذلك عن المآتم الحسينية التي قرأ فيها بتاروت ومنها؛ مسجد الإمام زين العابدين في الدشة، ومسجد الشيخ محمد وحسينية العودة (قراءة مقدمة)، ومنها انطلق إلى دور الخطيب الأساسي للحسينيات في جميع المجالس حتى وصل عدد المجالس اليومية في شهر المحرم 12 مجلسًا. ولا زالت له مجالس قائمة تصدح بصوته الولائي منها مجلس السيد صالح انصيف -رحمه الله- وبيت الحاج علي العلق حتى عام 1444هـ.

صعوبات
كانت المواصلات من أكثر الصعوبات التي واجهت ‘العسكري” في تلك الحقبة الزمنية، فكان يأتي من تاروت إلى الربيعية مشيًا على الأقدام، وعند عودته يرافقه بعض الأولاد المتطوعين في الخدمة الحسينية، ومنهم؛ عيسى المرزوق، وعبد رب الرسول معتوق الجمعان، حبيب صفوان، فيوصلونه إلى بيته أو بيت الملا خليل أبو زيد، لحضور الدروس والمناقشات العلمية.

ظل أبيهم
وصف “العسكري” أولاده: شريف، وحسن، وحسين، ومحمد بأنهم كانوا ظِلاً وعونًا وعينًا له، فمنذ الصغر كانوا ملازمين له على الدوام، ويقومون بإيصاله للمآتم التي يخطب فيها، وهم الإعلام الخاص الذي يوثق حياة أبيهم وظهوره على المنابر وحضوره المناسبات الاجتماعية، على حد قوله.

رحلة إلى العراق
تجاوز شغف “العسكري”، الدراسة في الداخل وسافر إلى العراق عام 1388- 1392هـ لتلقي علوم اللغة العربية والشرعية على يد عدد من العلماء الأفاضل، من ضمنهم؛ العلامة الشيخ حسين بن الشيخ الفرج العمران لمدة أربع سنوات، معلقًا: “هناك كان التعليم خارج القطيف مختلفًا تمامًا، حيث كنت تحرص فيه كطالب على أن تكون متفرغًا لبذل كل جهدك وطاقتك للعلم، وتكتسب الخبرات المعرفية من الآخرين وتجاربهم وعلمهم”.

كتبٌ قيمة
ونتج عن هذه المسيرة العلمية والتعليمية الحافلة مكتبة ثرية بالكتب التي ارتبط بها “العسكري”، حيث قال: “يزداد شغفي كلما اقتنيت كتابًا أدبيًا، فالقراءة تمنحني ثراءً معرفيًا كبيرًا لذلك حرصت على أن أجعل لي مكتبة خاصة داخل بيتي، قراءتي للكتب تكون حسب الاحتياج للمادة العلمية والاستفادة منها في البحث. الكتب كثيرة ومتنوعة، كتب لا تُعد، موسوعات علمية مختلفة، والخطابة بشكلٍ عام تحتاج إلى علم ومعرفة، لأنها ستترك أثرها القوي على الذاكرة والقلب، وكل هذا بغية الحصول على الخير للمجتمع”.

المنبر رسالة
يرى الخطيب أنه عندما تؤمن برسالتك حتمًا ستحقق هدفك، وأكمل: “إيماني القوي بأن المنبر انتماء روحي وقلبي وعقلي من خلاله تصل رسائلك للمجتمع. وتساءل: ماذا يريد منا أهل البيت -عليهم السلام-؟ ليجيب: يريدون منا أن نتعلّم الأخلاق، الفقه، العقائد وأن نتزود من المعارف، وبالاطلاع على الأهداف التي سعى إليها الإمام الحسين -عليه السلام- نجد أن الحسين يريد العمل بالحق والصبر على البلاء. الحياة مليئة بالابتلاءات ولا بد للإنسان أن ينهل من فيض علوم آل محمد الخير الكثير ليتجاوزها ويسعى في صلاح نفسه ومجتمعه.”

الإعلام مفقود
وعاد في حديثه إلى أجواء الزمن القديم, مبينًا كيفية القراءة في تلك الفترة وما يتطلبه المنبر الحسيني من حضور ومحتوى علمي جاذب للجمهور، فكانت البدايات موفقة -حسب قوله- والجمهور حريص على الحضور لا سيما أيام شهر عاشوراء، معقبًا: لقد كانت المجالس عامرة بجميع الفئات صغارًا وكبارًا. ولم يكن حينها هناك إعلام يوثق القِراءات والمحاضرات من تصوير فيديو وغيره من التقنيات الحديثة المتطورة، والقليل القليل من يقوم بتسجيل المحاضرات على أشرطة “الكاسيت” من الشباب المهتمين ولا أدري من يحتفظ بها إلى الآن”.

بطولات الطف
تطرق “العسكري” خلال حديثه عن واقعة الطف وأشعار البطولات التي خاضها العباس بن علي، وعلي الأكبر، والقاسم بن الحسن في عاشوراء مبينًا أنها أقوى أشعار البطولات التي رثاها الشعراء واصفين بها الشجاعة والقوة في ميدان الحرب، معقبًا: “عندما نقف عليها نستشعرها وكأننا حضور معهم في تلك اللحظات، بطولة العباس في المشرعة، والأكبر والقاسم في ميدان الحرب، كلها توحي بالقوة والحق والثبات، وليس من مجلس من مجالس عاشوراء إلا ويقرؤها الخطباء فيه من ديوان الشاعر المرحوم الشيخ محمد بن نصّار”.

أهداف متنوعة
وركز “العسكري” في قِراءته الحسينية على الأهداف الدينية والفقهية والعقائدية، والمجتمعية، متخذًا المنبر أداةً إعلامية لأداء رسالته المجتمعية، وبهذا التكوين الثقافي وبممارسة الخطابة منذ صِباه في مختلف مناطق تاروت، وباتساع دائرة علاقاته بحكم المجالس الحسينية وعلاقاته المجتمعية مع نخبة من أجلاء وأفاضل العلماء فقد كان رمزًا من رموز العلم وهب حياته للعلم والاشتغال على توظيف رسالته المنبرية في خدمة مجتمعه.

تكريمات
كرّمَ الخطيب العسكري ضمن احتفال رابطة المنبر الحسيني بالقطيف والدمام عام 1438هـ (يوم الخطيب الحسيني) إلى جانب ثلة من الخطباء.

المنبر أهم القنوات
وفي ختام حديثه، أكد الخطيب الحسيني، أن المنبر يُعد أحد أهم القنوات الإعلامية والتثقيفية والتعليمية والتوجيهية، وهو عاملٌ مؤثر في الجانب الأخلاقي، وتوجيه المجتمع إلى ما فيه نفعه وصلاحه، إلى جانب دوره في طرح المشكلات الاجتماعية ومعالجتها، كل هذا يعتمد على دور الخطيب وما يقدّمه للمجتمع، مشيرًا إلى أن مآتم الحسين قد جسّدت فينا كل ما قدّمه في يوم عاشوراء من نصرة الحق والإيثار والأخلاق والقيم الحميدة، وكل ما يحتاجه الدين من إصلاح وذلك من خِلال الاستماع والبكاء لتطهير ما بداخلنا، قصدًا وعِناية للمآتم من أجل شيئين هما؛ المعرفة والمثوبة.




error: المحتوي محمي